
وعن الامام محمد الباقرعليه السلام :" من مشى في حاجة أخيه المسلم أظله الله بخمسة وسبعين ألف ملك ولم يرفع قدما إلا كتب الله له بها حسنة وحط عنه بسيئة ويرفع له بها درجة فإذا فرغ من حاجته كتب الله عزوجل له بها أجر حاج ومعتمر".
" تعلمت من التاريخ : أن الإنسان لا يمكنه أبدًا أن يتعلم من التاريخ ! "
- هـيغـل
يحدثنا التاريخ عن حادثة مدفونة في التاريخ القديم قبل ميلاد المسيح عليه السلام ، عن دولة كانت جمهورية في زمن لم تعرف فيه الدويلات سوى أحكام العشائر و تقاليد القبائل ، يحدثنا عن مكان اسمه " كوريا جوليا " اجتمع فيه نخبة الشعب الروماني و قرروا أن تكون السلطة بالإنتخاب بعد اسقاط الملكية ، ليكتب التاريخ في صفحاته عن امبراطورية و لكن ديمقراطية .
بسطت الامبراطورية الرومانية سلطتها على بلاد أوروبا و توسعت نحو آسيا في واحدة من أكبر الرقع التي شملتها طوال تاريخها ، و رغم ذلك كانت هذه الامبراطورية تقاد من مجلس الشيوخ في روما الإيطالية ، هؤلاء الشيوخ كانوا يصلون للكوريا جوليا بالإنتخاب من قِبل الشعب الروماني في نظام بديع لم يسمح لأحد فيه بالبروز أبدًا ، فقد كان الحكم مشتركًا بين المنتخبين لا يعترف بسلطة أحد على آخر خارج الحدود المتعارف عليها .
وفرت هذه القيادة لهذه الامبراطورية جوًا جعل من بعض العائلات ترى في مجلس الشيوخ حقًا مكتسبا لها فهي تتوارث الكراسي فيه اعتمادا على ارثها السياسي و المالي و الاجتماعي ، و ساهمت الوفرة الاقتصادية التي شهدتها روما بسبب التوسع الكبير في الفتوحات العسكرية الناجحة في بلاد الغال و اليونان و آسيا و غيرها في رفع المستوى المعيشي للرومان بدرجة كبيرة حتى تحولت روما لقبلة الأرض وقتها ، و من هنا بدأت الحكاية .
كانت الفتوحات التي تحدث لبلدان تعيش في عصور الحكم الفردي المطلق تحت قيادة الجنرالات الرومان تعاني من خلل فشلت فيه الحكومة الرومانية من التعامل معه ، فقد كانت تلك البلاد لا تزال تحت تأثير الحاكم الاوحد المطاع و ضعف التمويلات و الامدادات للجنرالات و الجيوش التي فتحت هذه البلدان بسبب الألعاب و المصالح السياسية التي كانت تحكم العائلات المتسيسة في مجلس الشيوخ جعلت هؤلاء الجنرالات يلجؤون إلى تثبيت أنفسهم و اظهارهم أمام سكان تلك البلدان كحكام فعليين يحكمون باسم الامبراطورية لجباية ما يريدون في سبيل حفظ الجيوش و الممتلكات مما ولد طائفة من المستفيدين أو كما يُحب أن يسمهيم البعض ( البطانة ) السيئة في الدولة .
هذا البروز للجنرالات جعل مجلس الشيوخ يبتعد عن تدعيم الجيوش تاركا إياها لقوادها ، و بدلا من ذلك بدأ أعضاء المجلس في الدخول بلعبة التحالفات مع الأقطاب ' الكبرى ' في المؤسسة العسكرية ، حيث بدأ شراء الولاءات و الصفقات و التحالفات القائمة على الأفكار و المبادئ و لكن بشكل أكبر ( المصالح ) .
بدأت العنصرية تمزق الامبراطورية الرومانية فمجلس الشيوخ نتيجة عداءه مع ' بومبي ' الذي لم يفوضه لغزو الشام ، رفض الاعتراف بمواطنية أهل سوريا ضمن الجمهورية الرومانية كما أن المجلس رفضا اعطاء أي حقوق للمواطنين اللاتين كما رفض مساواتهم بالمواطنين الرومان ، و وقف النبلاء بالتحالف مع أبنائهم في مجلس الشيوخ موقفا صلبا ضد هؤلاء ، كان ' ماريوس ' القائد الروماني منتخبا من طرف مجلس الشيوخ [ السيناتورات ] ليكون قائدًا في الحرب الأهلية النوميديين [ سكان شمال أفريقيا ] ضد أتباع بوغرطة و استمرت هذه الحرب طويلاً حتى أصاب الشعب الروماني الملل و الكلل نتيجة ضعف الدولة عن هزيمة هؤلاء و كنتيجة لتشرذم مجلس الشيوخ الذي وجد نفسه أمام ضرورة التجديد لـ ماريوس بطريقة غير شرعية حتى تنتهي هذه الحرب ، لأن الشعب قد اكتشف أن ملك النوميديين بوغرطة قد دفع رشاوى كبيرة لأعضاء مجلس الشيوخ حتى يتخلص من العقوبة ضده و يخرج من هذه الحرب سالمًا .
عندما انتهت الحرب بدأت العنصرية تطفح على السطح بصورتها الشرسة و مهددة بتمزق الجمهورية ، فقد بدأ ماريوس نزاعا ساحقا ضد سولا الروماني الذي أجبر مجلس الشيوخ على انتخابه كرئيس للجمهورية بعدما حاصرهم بقواته و هو الذي فعل ما عجز عنه ماريوس في انهاء بوغرطة و حكمه ، و دخلا في حرب كان سببها الشعوبية و العنصرية ما بين النوميديين و بين الرومان و ما لبث الصراع أن أشعل صراعات أخرى كان منها ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس الذي بدأ يتقدم ببطء نحو روما و هو يسحق الجيش الروماني .
يُعتبر " سولا " أول ديكتاتور في العهد الجمهوري الروماني فقد رأى مجلس الشيوخ في جيوشه المطيعة له الزاحفة نحو روما سببا كافيا لإعطائه ما يريده من سُلطة ، و ما لبث سولا أن زاد عدد الأعضاء إلى نحو 600 شيخ في مجلس الشيوخ في طريقة لضمان بقاءه على السلطة و استمرار سيطرته على مجلس الشيوخ و هذا ما حدث له ، و لكن برز ما لم يكن في الحسبان .
حربه التي خاضها ضد الشعوبيين و ضد العبيد و ضد اللاتين ولّدت المزيد من العنصريات و الثورات التي صُنّفت على أنها ثورات و حروب " اجتماعية " ، و في ظل تذمر العامة من الأداء السياسي المتهافت لمجلس الشيوخ ، و كثرة الحروب العبثية و تفرق الرومان و المواطنين و تعدد الانتماءات و محاولة كل جنرال إبراز نفسه كقوة يُنظر لها باحترام و بخشية سيّما من كانوا في اطراف الامبراطورية ، كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت روما على صفيح ساخن تخرج من أزمة لتدخل في أخرى و صُبّ الاهتمام على شراء ولاءات اعضاء مجلس الشيوخ و صراعهم مع أقطاب السلطة و تناسوا الامبراطورية و أمنها و حمايتها و مكانتها ، و تناسوا كل المشاكل التي تعاني منها هذه الجمهورية المرهقة و انصب اهتمام النخبة في روما على الحفلات و حلبات المصارعة و تكوين القواعد و الخطابات و الشعارات ، لدرجة تحول المصارعين العبيد و حركاتهم و أسمائهم إلى قضايا تشغل أبناء العاصمة و الدولة عن كل شيء آخر بما فيه تفكك البلاد تحت نير الاقطاع و المعارك .
و لم يصحوا إلا على وقع أن السلطة في الحقيقة تركزت بعد خروج " سولا " من الصورة بيد " بومبي " و "قيصر" و "كراسوس" الذي مات تاركا مكانه لـ " بومبي " و اغتاله يوليوس قيصر بدوره ليُعلن بعد ذلك انتهاء الجمهورية الرومانية و بداية العصر الامبراطوري القائم على الديكتاتورية المطلقة ممنيًا الشعب الروماني بالعدالة و تحسين المستوى المعيشي المتهالك نتيجة الحروب و الصراعات السياسية ملقيًا باللوم كله على أعضاء مجلس الشيوخ ؛ مما يثير الضحك عند المؤرخين هو أنّ هؤلاء الثلاثة إنما حصلوا على مكانتهم و مراكزهم بما وفرته لهم الجمهورية من مكانة عن طريق الـ كوريا جوليا فكانوا هم أول من انقلب عليه.
و هكذا انتهت قصة جمهورية كانت سببًا للديكتاتورية .
توفي والدي و أنا في بداية مراهقتي ..
كان كل شيء متاح أمامي ...
فالمال متوفر ، و الرقابة منعدمة ،
كما يقولون المقتضى موجود و المانع مفقود .
كنت قبل ذلك بسنوات أراه ،
أستمع له أحيانا ،
تشدني كلماته ، ثم ابتعد عنه
لا اعرفه جيدا و لكن في تلك السنة قررت أن أتعرف عليه عن قرب .
هناك شيء جذبني له .. ربما فقداني لنصائح والدي !
ما قبلها كنت أتخبط ما بين شبهات ذاك الطرف ، و افتراءات هذا الطرف
كانت لي تجربة سيئة جدا في مجال ما يدعونه بـ " الحركية " .
تلك السنة جلست عنده و سلمته أغلى ما أملك : عقلي .
مراهق بسيط منخدع بالكثير من بهارج الدنيا ..
تكفلني .. ليس ماليا و لكن فكريا
كانوا يتصلون عليّ : اليوم سينما ؟
جوابي : عندي شي أهم !
أذكر جلوسي عنده أمام مكتبه الصغير في منطقة سلوى
على المكتب عدة أوراق و أقلام بسيطة و فوقه مكتبة عظيمة
أسأله و يجيب ، ازيد و يسهب ، أحاول أن أغيضه ببعض الشبهات
يهدمها لي و هو يضحك مبتسما و يشجعني على أن آتيه بالمزيد منها
سألته يومًا : هل هناك شيء تنصحني ألا أقرؤه ؟
قال : إقرا كل ما يقع تحت يداك ..
كلمة تماثل ما قاله لي والدي قبل وفاته بفترة بسيطة .
في شهر رمضان كنا في أوقات نحرمه من لقمة الإفطار من كثرة أسئلتنا ..
ما وجدت أوداجه تنتفخ ، و لا أعصابه تفقد .. كان يقابلنا بترحاب يجعلنا أحيانا نخجل من أنفسنا
حين نخرج من عنده يشيعنا للباب و يسألنا الدعاء .. أضحك و أقوله : دعائي يطق السقف و يرجع
يضحك فيقول :قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم
و لا ينسى بأن يذكرنا بصلاة الليلة و صلاة الليل
نجلس بالساعات .. ننهل من فيض علمه .. و لطف أدبه
أعشق حديثه عن علم الاجتماع و هو يسبر اغوار النفس الإنسانية
و أحب نكاته الفلسفية و استشهاداته بها .. رغم أنه حاصل شهادة عليا في الحقوق
فقد كان وسطنا .. كأحدنا
أما قصصه فكنت أتعجب منها .. يروي الحكاية و إن سالته عنها بعد عدة سنوات
سيذكرها لك مجددا و يشير لك لمصدرها ..
يعشق التاريخ و يحب النظر له من زاوية مختلفة ..
علمني بذلك كيف أقرأ ماضيّ لأصحح به مستقبلي
يقولون من علمني حرفا صرتُ له عبدا .. فما بالك بمن علمني كل شيء ؟
...
كنت أدخل نفسي في نقاشات هي أكبر مني و حين أرى الردود
اهرع له ، ما هو الرد ؟
و يجلس بالساعات يفصل لي المسألة و يحللها و يجيبني عنها
عرفت منه كيف أحلل الكلمة لأخرج منها الإجابة
و كيف أن حياة الإنسان إما أن تكون بهيمية أو بشرية
كان حديثه لي دائما : دع الأنا العلوية تقودك للبشرية
أستاذي هذا ، الذي أتقازم أمام أفضاله عليّ هو ..
السيد محمد باقر الفالي
...
بيروت - لبنان
أذكر تلك الدمعات جيدا حين وجدت تلك اليتيمة
أخاها اليتيم المفقود منذ سنوات على مائدة ..
صنعتها في مؤسسة جعلتها
مأوى لهؤلاء ..
تجالسهم .. و تتحنن عليهم
كانوا عن جدك يقولون :
و أبو اليتامى و الجياع يعولهم
فكأنه و كأنهـم أرحامُ
و لكنهم اليوم عنك يقولون : مجرم !
كما قال جدك ..
أنزلني الدهر و أنزلني .. و أنزلني
هكذا هو الدهر مع العظام !
...
إليك يا أستاذي اعتذاري
فقومي لم يقدروك .. و لم يعرفوك
لو كنت تلبس طربوش الأفندية و قلت ما قاله علي الوردي لجعلوا لك نصبا
و لو استبدلت الجبة بالبدلة و قلت ما قاله سيد قطب لسموك الشهيد الحي
و لكنك تلبس عمامة .. فاتهموك بكل صلافة !
إنهم يحبون النظر بعين واحدة ..
قدسوا سارتر ،، و ألهوا داروين ،، و جعلوا القمني قديسا
و صنعوا منك تمثالا لشرورهم
إليك يا سيدي اعتذاري
و أعلم أنك لا تحتاجه ، فكلماتك صارمة
وقفت في كربلاء و أظهرت معدن البعث ما هو فكان نصيبك منهم الإعدام
اعتذاري يا سيدي لأنهم جعلوك كبش فداء لمطامعهم
اعتذاري لأنهم صوروك بغير صورتك ..
اعتذاري إليك يا سيدي لأنهم عرفوا ما صنعت ..
و عرفوا جيدا ما صنعوا هم ..فحق منهم البغض لك !
اعتذاري لك يا سيدي لأن قومي استضعفوك .. لأن قومي
سلبوا حقوقك .. لان قومي برروا التعدي عليك بحجة أن جوازك
لونه أحمر و عليه شعار ( الله ) !
اعتذاري يا سيدي إليك لأنهم مارسوا عهرهم السياسي
على عباءتك !
في موضوع :
تطرقت لذكر مبدأ " الاخلاق " و تفريقه عن مبدأ " الفعل الأخلاقي " ، و أعتقد أنّ أكثر من ركز على هذا التفريق كان الشهيد د. مرتضى مطهري حين درس مبادئ الأخلاق و تأثيرها في تكوين المجتمعات ، و هل هي مكتسبة أم متأصلة في الإنسان ؟
و ناقش ذلك بصورة مسهبة في كتابيه عن الأخلاق و عن تحقيق نظرية نسبية الأخلاق.
في ذلك الموضوع نوهت إلى الرغبة في بيان معنى هذا التفريق بكلمات كتبتها سابقا، و لأنه مفهوم في ذاته بسيطٌ جدًا أجد من اللازم علي أن أتوسع قليلاً في بدايته ليشمل نظرة مختصرة إلى الأخلاق ككل ، و هذه النظرة قادرة على أن تتفرع إلى آلاف الفروع الجانبية و كل فرع يتوالد فروعًا أكثر .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في مدار التاريخ و بين طبقات ( النخبة ) كما يعبر عنهم كان هناك نقاش حاد عن الحدود التي يصح بها وصف فعل ما أو شي ما بالحسن أو القبح ، هل هذه الحدود و الأطر تكون قياسا بالإنسان ذاته و أنه ( القطب الأوحد ) أم أنها تكون تابعة لمتحكمات ثانية تتداخل في رسم حياة الإنسان و ما يتعلق بها .
فلاسفة اليونان القدماء ذهبوا إلى الرأي الاول و هو أن الانسان هو ( القطب الاوحد ) و إن اعتقاده بأي شيء هو سبيل اثبات وجوده ، فلو كان الإنسان يرى في فعل ما قباحة عقلية وجب وصف هذا الفعل بالقبح ، بينما لو وجد فيه الحُسن وصف بالحسن مع الأخذ بالاعتبار أن القباحة و الحسن لا يرتبطان بعقل جمعي بل بعقل فردي بمعنى أن الحقيقة الواحدة يمكن لها أن تثبت و تنفى بنفس الوقت ، يعني لو قال إنسان أن السرقة حسنة فهي بحسب مبادئ اليونانيين " حسنة " بينما لو قال زميله بأنها سيئة فإنها حين إذن تدخل بباب القبح فتكون حائزة على مبدئي الحسن و القبح بنفس الوقت !
هذه الفكرة انتقلت بصورة محسنة نوعا ما إلى بعض الفلاسفة المتأخرين الذين حدثوا هذه الفكرة من باب أن مدار اطلاق القبح أو الحسن على فعل ما هو (رضا) المجتمع به فحين يكون هذا الفعل مشكورًا و ممدوحا في المجتمع فهو فعل حسن و العكس صحيح ، و بما أن رضا المجتمع هو شيء متحرك أي قابل للتطور سواء بناحية ايجابية أو سلبية فإن الاخلاق حسنها و سيئها قابلة للتحرك فيمكن أن تكون بعصر جيدة و في عصر آخر سيئة و هنا نقطة وجب الإلتفات لها ، فحين نتحدث عن المتغير و الثابت عند الغرب و مقارنتها بالثبات و المتغير عند المسلمين المؤمنين بالحلال و الحرام الثابتين يشتبه كما يبدو على الكثيرين أن هذا الأمر هو ما دفع الفلاسفة المسلمين إلى مبدأ و مفهوم العناوين ( الأولية و الثانوية ) فالنسبية موجودة إنما يختلف مصداقها ما بين المسلمين و غيرهم ، فحسب الفكر الغربي فإن رضا المجتمع يحكم على الفعل بذاته بحسنه و إن كانت بعض النفوس تأباه إلا أنها ترضاه لأن المجتمع أقره ، بينما في المفهوم الإسلامي يظل الحكم ثابتا بالحرمة أو الحلية بالعنوان الأولي و هو المصداق الرئيسي بينما يكون قابلا للتغيير في العنوان الثانوي بحسب الحالة و القضية التي تحكمه مع الإلتفات أن أحد الفلاسفة الغربيين و هو ( هيغل ) تطرق إلى هذه القضية و أيّد فيها هذا الكلام لكن من ناقش كلامه لم يلتفت إلى أن المسلمين يؤمنون بمثل ما يؤمن به إلا في الثوابت التي تكون غير قابلة للتحول عندهم بينما عند هيغل فهي متحركة بحسب المجتمع و في كل الاطراف ، و لهذا تفصيل آخر .
أما سارتر فنظرته قائمة على مبدا الانتخاب و هو ما يرضى به الإنسان و يؤيد تماما نسبية الأخلاق و أن السيء في عصر جيد في عصر آخر بحسب انتخاب المجتمع و اقراره لهذا الفعل ، فهنا يصح إطلاق مفهوم النسبية على المبنى الأخلاقي ككل .
الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يرتبط أدائه بحكم عقلي أو شرعي باستحسانه أو استقباحه ، و هذا الحكم يُقاس على الثابت الخُلقي ، و هو ما أشرت له في كلامي السابق بأنه و إن اصبح الزنا – و العياذ بالله – عرف متسامح فيه بالمجتمع إلا أنه في ذاته لا زال بنفس المحل من الإنكار .
ليست هناك ملازمة بين الخلق و الفعل الأخلاقي ، فليس الفعل كالخلق قابل لأن يكون مصنفًا في باب ( الحسن ) و باب ( القبيح ) فقط ، و أضرب على هذا مثلاً، و هي عادة مستخدمة في التربية .
لو كان هناك طفل و ضُرب من أحدهم ، الحكم الأخلاقي هو باستقباح الضرب من باب القاعده العامة إنما الفعل الأخلاقي فهو تارة ممدوح إذا كان هذا الضرب من باب التربية و التأديب و مستقبح إن كان من باب الأذية و الإعتداء ، فهنا نحن أمام حكم النسبية و هو انطباق العنوانين على الحالة و لكن الفارق بينهما هو مورد (الفعل الأخلاقي) الذي يصنف من باب العنوان الثانوي لأن العنوان الأولي و هو الضرب يدخل به حكم الكراهة .
حتى أوضح الفارق بين العنوان الاولي و الثانوي أضرب مثالا يستعمل الآن ، فالكحول مستخلص من التخمير .
و عملية التخمير تضفي الحرمة على ما دخل فيها ، فبالعنوان الأولي مفهوم الحرمة منطبق ، لكنه هذا الكحول المستخلص يستعمل في الاغراض الطبية فيحكم بحليته من العنوان الثانوي لأن مورده داخل في الحلية ، مع الاخذ بالاعتبار أن تحضيره في الأصل لا يصح إلا لمسوغ .
عندما نقول أن الماء = water فهذا يعني أن كلا اللفظان مترادفان و إن اختلف نطقهما و رسمهما ، و لكن النتيجة النهائية لهما واحدة ، فهل ينطبق هذا الأمر على وصفنا للآداب و الأخلاق ؟
قطعًا و بلا تردد ( لا ) .
فالآداب في ذاتها شيء مختلف عن الأخلاق و إن كان الأصل في فيهما تشذيب و تهذيب الطبيعة الإنسانية لما فيه الصالح العام ، فالأخلاق بحسب المفهوم الإسلامي هي شرائط و ضوابط وضعت بناء على استقراء النفس الإنسانية و قائمة عليها فالإنسان حسب قول علماء الأخلاق مداره ثلاث قوى تتحكم به :
و الأخلاق يكمن دورها هو في ضبط توازن هذه القوى بحيث لا تطغى أحدهما على الأخرى ، فلا يصبح الإنسان عقلانيًا إلى درجة اهمال النفس و متطلباتها ، و لا يصبح حيوانيًا إلى درجة إلغاء العقل و قوى الغضبية ، و لا يصبح ( متلونًا ) هدفه المصلحة الذاتية القائمة على المنفعة الشخصية فقط ، فالأخلاق هي ضوابط تحفظ لكل هذه القوى حدودها بحيث لا تكون احداها حاكمة على الاخريات فهذا خلاف ما أقره الله سبحانه .
لذلك نرى الاهتمام الإسلامي العظيم في تنشئة كل جانب من هذه القوى وفق وصايا قائمة على المبادئ الإلهية المنزلة و هي ثوابت لا يمكن لها أن تتغير أو تتحول لأنها موضوعة بالمعرفة الإلهية التامة لا تتبدل و لا تتحول .
أما الآداب فهي مسألة منفصلة لا تتعلق بذات الإنسان بما يحمله من غرائز تتجاذب مقود التحكم فيه ، بل هي مسالة امكانيات و فنون يكتسبها الانسان لتكون محركا له في التكيف مع العالم ، فهي مجموعة أعراف و تقاليد لا يمكن لها أن تكون ثابتة لأنها قائمة على مبدأ العقل الإنساني القاصر و فهي قابلة للتحول بناء على التطور الإنساني و تغير عادات الإنسان و أعرافه أوضح من أن يضرب لها المثل ليتم التدليل عليها .
فالتطور الإنساني لا يمكن له أن يغير الأخلاق و إن غير ( أفعالها ) فهي موضوعة بأسس قائمة على صيانة مراكز التحكم في الإنسان و موضوعة بدقة ، بينما التطور له حق تغيير العادات و الآداب الإنسانية فهي مبنية على ( الممكن ) المنتخب من قبل الناس كقواعد لتسهيل التكيّف بينهم و بين مجتمعاتهم .
الحسن و القبيح عند الفلاسفة الغربيين مستمدٌ تعريفه مما ذهب إليه اليونانيين القدماء و على رأسهم ( سقراط ) في أنه تابعٌ في حكمه بما يحكم به العقل ، فسيده هو العقل فقط لأنه الوحيد القادر على إدراك الأمور .
عندما يكون العقل هو المرجع الوحيد فالتغير يكون طريقه ، لأن العقل الإنساني يمشي بخط متوازي مع التطور ، كمثال لو أخذنا الحجاب بصورة مجردة فهو حسنٌ عقلي عند المجتمعات الإسلامية و لكنه مستقبح عقلي عند المجتمعات الليبرالية المختلفة ، فالعقل يتفاوت في اثبات الحسن و القبح لما يملكه من معطيات مختلفة تؤدي إلى أحكام مختلفة .
في المفهوم الإسلامي [ كما ذهب لذلك و شرحه العلامة الطباطبائي و مطهري و غيرهم ] فإن الأصل في الحكم بالاستقباح و الحسن هو ( الإرادة ) الإنسانية و هي القوة الحاكمة عليه التي تبين له متى تعدى على حدود احدى قواه .
فلو زاد الانسان في الاعتماد على قواه الغضبية – مثلاً – فإن في نفسه تظهر ملامح البُعد عن المصلحة العامة و يمكن تلمسها فلو كان للإنسان ( إرادة ) حاكمة اعاد تقييم نفسه إلى الجادة الصواب رغم أنف " طبيعته " .
هذه الإرادة هي ما يشير إليها سبحانه بـ ( النفس اللوامة ) و هي أصغر محكمة وضعت داخل الإنسان لتقييم فعله و إن شذَّ بطبيعته عنها ، و هي ما يصطلح عليه عند العرفانيين بـ " الوجدان " . . ، و هذا مبحث آخر .
( 1 ) التركيز على أيَّ شيء في نواحيه الإيجابية لا يلفت النظر إلى حقيقة السلبيات الموجودة فيه ، فالإنسان كائن يعتمد على مبدأ " التلقين " في أخذ و تكوين قناعاته ، فهو ميّال إلى الاقتناع بما يتم ترديده على سمعه حتى يقر في ذهنه ، و عندما يتم التركيز على قيم و تصرفات تمثل روائع الأخلاق حدثت في تلك العصور بشكل مركز ، فإن الصورة الذهنية المتكونة هي صورة المدينة الفاضلة ، الصور المماثلة للكمال الذي ينشده الإنسان ، فتصبح كل فترة مقارنة بهذه الصورة ساقطة عن الاعتبار لأنها لا تصل لدرجة كمالها .
عدم نقل الماضي بموضوعية يؤدي إلى تطرف في تقديس هذا الماضي ، و اسباغ هالات القداسة عليه فلا يُعد بعد ذلك في محل مقارنة مع أي وقت آخر ، ماذا لو حاول أحدنا اليوم أن يُقارن وقتنا الحاضر ، بكويت ما قبل طفرة النفط ؟
اعتقد أن كل سلبية اكتشفت في تاريخ البشرية ستُلبس على واقعنا الحاضر و سيخرج الماضي نزيها ناقيا طاهرًا مطهرًا ، رغم أن تتبع التاريخ يقول بأن ما نعيشه الآن يعتبر إطارًا أكثر إلتزاما و احترامًا و قيمة من أغلب تاريخنا ، أصبحت العنصرية مجرد أمراض نفسية تظهر خارج القانون ، فهي عقد مجتمعية و لم تعد الأساس في الحكم القانوني أو التشريعي ، أصبحت السواسية مصدر التعامل بين البشر و الاستهجان هو المقابل لغيرها من تفرقة .
لم تعد قوانين المجتمعات البدائية هي الحاكمة ، بل قوانين الدولة الدستورية التي تضيف قيمة للإنسان من حيث كونه إنسان ، لا من حيث كونه النَسَبي أو مقامه الاجتماعي و رصيده البنكي ، نعم لا يخلو الأمر من شوائب و أي شيء يخلو منها ؟
و لكن المقارنة بين الحاضر و الماضي و ثقل كفة ميزان الماضي دائمًا كما يحدث الآن ليس من الصواب في شيء ، و لكنه نتيجة في الغالب لتصوير التفوق الماضوي رغم عدم صحة الأمر .
( 2 ) انكشاف الماضي أمام الحاضر ، هو أحد الأسباب المهمة في نظري ، فالإنسان بطبعه لا يحب التعقيد إنما يميل للتبسيط ، لذلك كان الخوف هو مرادفه دائمًا من مستقبله ، لان المستقبل شيء مجهول لم يختبره الإنسان إلى الآن فهو يفضل الركون إلى القديم المعروف بدلاً من الجديد المجهول .
أحد أسباب الإنجذاب إلى الماضي هو أنّ جميع ما به قد كُشف فليست هناك مطبات أو عواقب وخيمة غير معروفة أو مظان سلبية مجهولة ، فالماضي خالي تمامًا من الترقب لما هو قادم أو من العيش في قلق المشاكل الحالية كما هو الحاضر ، لذلك دائمًا ما يكون تذكر الماضي هو بسبب القلق الذي يعيشه الإنسان في يومه ، و همه و غمه الذي يحمله لما يمكن أن ياتي به المستقبل سواءٌ القريب أو البعيد .
دائمًا نفضل الرجوع للماضي و استحضاره ، و لكننا في نفس الوقت ننسى ما كنّا نشعر به في لحظاتها من ترقب يماثل ما نعيشه في وقتنا الحاضر ، لان تقادم الزمن أنسانا هذه المشاعر ، و انتهاء أحداث الماضي و انتقالها من لحظة " المعايشة " إلى أدراج " الذكريات " يعني تحولها إلى أحداث تذكرها يولد فينا شعور الحنين إليها ففيها يُفتقد شعور الغربة و الترقب و tension الحياة اليومية ، لان ذاكرة الإنسان في الغالب لا تحتفظ إلا بما يسرها بكل تفاصيله و تمحو معظم تفاصيل الاحداث السيئة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذاكرة الإنسان وضعت فيه كنعمة إلهية لتعينه على المضي قدمًا في حياته ، لان الحياة لا تسير بدون الخبرات و تراكم هذه الخبرات بفضل الذاكرة يعطي للإنسان الدافعية لأن يكمل مسيره و يتكيف مع ما يصيبه ، و يتجنب ما سبق و أن وقع فيه ، و لكنه للأسف حولها إلى أداة رجعيّة ، تحبس عقله في دواخل الماضي كحل أخير لاخراجه مما يعيشه ، أو كنافذة للهروب للأمام بحيث يلقي تبعات كل مساوئ الحاضر التي يراها على معاصريه ، و يفضل استرجاع الماضي كسبيل للتغلب على هذه المشاكل .
تمامًا كمن يحاول أن يتخلص من التبعات الثقيلة التي يعيشها وطننا الآن في أن يطالب إرجاع الخلافة ، أو أن نعود لقيم السبعينات و الستينات و كأنها الكمال الإلهي المنزل ، فهؤلاء مثلهم كمثل دونكيشوت يحاولون محاربة معضلات الحاضر بتجنبها و إلقاء سبل حلها على ما مضى علهم بذلك يتخلصون من أم المشاكل و هو السؤال : كيف نتغلب على مشاكلنا الحاضرة ؟
عدم الموضوعية في قراءة التاريخ ، جعلتنا ننشيء أجيالاً غير قادرة على التكيف مع حاضرها و واقعها و تفضل بدلاً من ذلك أن تغوص في ماضيها ، و تجعله الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا خلفه في حل مشكلاتها ، من خلال استرجاعه و محاولة تطبيقه غصبًا .
لا أحد يفكر بخصائص المجتمعات و تغيرها من سنة إلى أخرى ، و لا بمناسبة القواعد كلٌ بحسب مقامها ، إنما تفكيرهم منحصر بأن السبب في عدم وجود أمثال هذه المشاكل الحاليّة هي أنها لم تكن موجودة في السابق ، لذلك يجب أن نعيد بناء الماضي لنتخلص منها !
مجتمعاتنا الحالية هي في الصورة العامة تتفوق على كل مجتمعاتنا الماضية ، من أغلب النواحي ، حتى في قيم المجتمعات فهي بمجملها لا زالت موجودة و بدرجة أكبر مما سبق ، و لكن شدة التركيز على الماضي أضفى عليها هالة أعمت أبصارنا عن الحكم بعدالة على واقعنا الآن ، الأمر ليس بحاجة لأكثر من نظرة منصفة تزن الأمور بموازينها بعيدًا عن التنظيرات و التجاذبات التي تطرحها الفرق العاجزة عن اثبات حلولها لمشاكل الحاضر فتلجأ لأن تعيش بدوامة الماضي .
أنا أجزم صادقًا بأنه لو حدثت هذه " الردة " على أرض الواقع بدلا من حدوثها على أوراق التنظيرات لتبرء منها أصحابها و المنادين بها في أول الامر ، لأن الواقع دائمًا هو نقيض الحلم !
ملاحظة : حتى نعرف معنى القناعة ، و منها القناعة بزمننا الحاضر ، اقرؤوا هذه الكلمات الرائعة بمدونة أنا و زوجتي بعنوان : القناعة .
لابن يانغ الأول - حفظه الله .