25 فبراير 2009

بعد 48 سنة على الإستقلال

بعد أن اضطررت اضطرارًا شديدًا و مؤسفًا أن أسلك " شارع الخليج " منتصف ليلة الأمس ، و بعد ما شاهدته من مناظر ذكرتني بمسلسل " Tarzan " كانت هذه الشقشقة التي هدرت ثم قرّت.

.



أهرامات الجيزة تمثل احدى عبقريات البناء الإنساني ، يرى البعض فيها صخورًا و الآخر قبورًا و الثالث تحفًا معمارية ، أنا أرى فيها سيرة الحياة ، تبدأ فارغة في المنتصف و تصل في النهاية إلى سد هذا الفراغ برأس دقيق يمثل القدرة المختزلة لكل هذه الاحجار التي وضعت تدريجيًا حتى وصلت للقمة ، و بعد القمة تبدأ بذلك النزول إلى أن تصل إلى الفراغ الأكبر في القاعدة بنفس الوتيرة .



اليوم [1] تمر ذكرى 48 سنة على الإستقلال و هذه فترة بأعمار الدول بل و حتى الإنسان تعتبر قصيرة نسبيًا و لكنها قياسًا بالكويت اليوم تعد إشارة لكل نظريات الهِرم التي صاغها علماء الإجتماع ، قبل سنة او بالتحديد سنة و شهرين من الآن احتفلت مجلة العربي بمرور 50 سنة على إصدارها ، صحيح أنها بدات بالصدور قبل الإستقلال التام و لكنها واكبت و زاملت تلك الأيام ، كم كنت أتمنى لو قامت الحكومة أو طالبها أعضاء مجلس الأمة بتوزيع ذلك العدد على كل بيت في الكويت بالمجان حتى يقرأ الشعب ذكريات الكتاب و الأدباء و المثقفين الذين قاموا ببناء صرحها و أشادوه في صورة تمثل أبلغ الكمالات لعنفوان الدولة الناهضة و أنا اجزم صادقًا أنه لن يضع أحدهم المجلة إلا و الكمد و الحسرة تقطع أنفاسه على ما يراه الآن من نقيض هذا العنفوان من شيخوخة مبكرة .
.


سار المجتمع الكويتي بخط تطوري صعد تدريجيًا و لكنه استعجل نهاية السباق فوصل قمته مع اعلان الاستقلال و صياغة الدستور المدني الذي كفل الحريات في وسط مجتمعات لم تزل متدنية في مستوى استيعابها لهذه الوقائع و الاحداث ، و لكن كما يبدو كان هذا التطور مجرد اقتباس سابق لأوانه من الدول الحديثة ، كان تطورًا فكريًا ' نخبويًا ' تناسى في غمرة صراعه أن المجتمع في عاداته و اعتقاداته لا زال متأخرًا عن استيعابه لهذه الامور بشكلها الكامل ، لو أخذت رجلاً من القرون الوسطى في عصور الإقطاع و اتيت به في خضم هذا العالم الحديث ذو الحقوق و الواجبات المدنية و الحريات فإن هذا الشخص لن يمانع هذه الحرية التي وصل لها و لكنه لن يتنازل عن قيم الاقطاع التي وقع تحت تأثيرها في تعامله مع باقي الناس ، اختلافه سيظهر جليًا و إن ادعى رضاه بالديمقراطية و المدنية و ما فيها و لن يمانع أبدًا من العودة لما كان عليه ، و لكن لو عكست الحال و اتيت برجل من هذا العصر و وضعته في عصور الإقطاع فلن يستطيع التعايش أبدًا ، اختلاف المعيشة و تطور الفكر الذي حصل نتيجة مخاض عسير من الصراعات و الحروب عند الإنسان الحديث سيما في أوروبا و الغرب أولد قيما تعد كالأرقام الثابتة في الرياضيات غير قابلة للتنازل عنها او تغييرها و منها الحرية و الديمقراطية .




يتحدث د. علي الوردي عن هذه الأزمة : « من طبيعة القيم الإجتماعية التي تسود الناس فترة طويلة من الزمن أنها لا تتغير بنفس السرعة التي تتغير بها ظروفهم » ، و أطلق على هذه الظاهرة في علم الإجتماع اسم (التناشز الإجتماعي) ، لم يكن المجتمع الكويتي سوى قرية صغيرة تغلق أسوارها بعد صلاة العشاء يتجمع تجارها في جبلة و الكادحين من سكانها مختنقون في فرجان شرق و الأواسط ما بين هاتين المنطقتين متوزعون ، و هذا هو الخطأ الاول حين تم الإتيان بفكر مدني بكل ما يحمله من مفردات المساواة و الحريات ليتم تطبيقه في مجتمع لازال يؤمن بفوقية التاجر الذي يأكل اللحم و دونية من أدامهم لا يتعدى المموش و السمك ، مجتمع يهاب الفداوي و خيزرانته و يعيش في كانتونات مقسمة تدور بين التجار و السلطة الحاكمة مداولات الديرة و يبات الشعب باحثا عن "نوخذة" يكفلهم [2]، لم تكن هذه المدنية القادمة متناسقة مع قدرة المجتمع على تقبلها ، لم يستطع 'الكبار' ان يهضموا هذا التغير الذي يزيحهم من بروجهم و يساويهم بعامة الشعب في كسر لا يجبر لقيم عشائرية سادت طويلاً ، لذلك بمجرد ذهاب سكرة هذا الإنطلاق بدأت الألاعيب تمارس لإعادة الأمور كما كانت عليه سابقًا و قد نجحت للأسف في كثير من الأمور و كم من قانون معطل و مادة دستورية دفنها الغبار لازالت موجودة إلى اليوم دون تطبيق حفاظاً على بعض الفروق كرامةً لأولئك.

.

و لكن هذا كله كان بالإمكان التغلب عليه بمرور الزمن و بالحفاظ على سير عملية التطبيق على علاتها لانها في النهاية ستولد قيمًا جديدة ، في الوقت الذي وقف فيه بعض النواب و ذهبوا لتقبيل 'خشوم' الوزراء من الأسرة في الستينات عندما دخلوا قاعة البرلمان ، وقف هؤلاء النواب مع الشعب في موقف المطالبة و المعارضة لإرجاع الديمقراطية في الثمانينات و هذا مؤشر على التحول و تغير القيم نتيجة التطور الذي طال فكر المجتمع و لو أنه كان تطورًا بسيطًا في ظاهره ، و يؤكد ذلك حين حديثه عن هذا التناشز د. علي الوردي و يستشهد بأسلوب الملك فيصل في العراق الذي عمد إلى التثقيف التدريجي للشعب بدأه في المدن و استطاع أن يحقق نجاحًا كبيرًا و لكن قيم السلطة العشائرية التي أصبحت لعبة تجيدها القوى السياسية لتنفيذ مخططاتها المرسومة لها استطاعت إزاحته ليعيد صدام في النهاية الكرة إلى ملعبها الأول [3].

.

ما مرت به الكويت كان عنفوانًا سريعًا أوصلها إلى شيخوخة مبكرة ، كان تطورًا مستعجلاً لم يستطع أن يحافظ على ثباته فوصل لخط النهاية قبل أوانه كما يقول الإنجليز : ما يأتي سريعًا يذهبُ سريعًا ، و هذه من طبيعة الأشياء أنها متى ما وصلت إلى القمة بدأت بالانحدار بنفس السرعة التي وصلت بها و لكن عجلة التسارع زادت بسبب الغزو الذي دق المسمار الأخير في النعش لمّا بات الكويتي ' كويتيًا ' ليصحَ على صوت عبد الحكيم زعلان و هو ينادي أبناء المحافظة التاسعة عشر ، أصبح الهمَّ اليوم عند الكثيرين هو ضمان مستقبلهم لأن شعورهم بوجود الدولة أصبح منعدمًا ، فالموجود الآن هو هيكل دولة أو بالأحرى أطلال دولة الكل يبحث فيها صيدٍ يعشي به أطفاله ، و إن لم تكن الفكرة ظاهرة على محياهم إلا أنها مغروسة في وجدانهم و باطنهم ، لم تعد مشكلة الموازنة بين القيم هي علاج شيخوخة الدولة و لكن مشكلة إيجاد معنى الوطن و الدولة في النفوس قبل كل شيء ، الكثيرون ارتكبوا جرائهم حين غابت الدولة في الغزو ظنًا منهم بانها لن تعود و لكنهم تمادوا حين رؤوها عادت و لكن بجنحان منكسرة يُبّرء السارق فيها و يتباكى السهران في كازينوهات الهرم على صيامه الذي يضطر لابطاله من شدة عطشه نظرًا لعلو صوته في دفاعه عن حقوق الشعب (!) و ينصب مدعي الدين فيها وصيًا على الشعب و هو يبيع الخمور ، و الآخر ينتخب نفس عضوًا في مجلس يمثل دولة يعتبر أن عيدها الوطني " يومًا وثنيًا " و أن عَلَمها لا يستحق حتى الإحترام و لم يعمد أحد إلى جبر هذه الكسور .. حينها لا نلومُ الشعب الضايع بالطوشه على حالة الضياع التي يعيشها بل قد نجد لهذه الحالة تبريرًا !

.


بعد 48 سنة على الإستقلال و 18 سنة على التحرير آن الاوان لان يتم تقييم الامور بدلاً من تغطيتها بأقنعة الكلمات ، لم تعد الشعارات و الأشعار و الدعوات الوطنية الخالية كافية لان تغطي عورة المستوى الذي وصلنا له عطفًا على البداية التي بداناها و قادت الكويت إلى أن تصبح درة الخليج في زمنٍ قصير انتهى .



الأعياد الوطنية ليست مجرد أيام يُحتفل بها و تُذاع بها الأغاني ، بل هي أيام يستذكر بها مسيرة الدول ، لا يعني أن لا نفرح بها و لكن تعني أن لا نلجأ لهذه الإحتفالات حتى نخفي التصدع الحاصل تحت رغوات علب الصابون .






و الحديثُ ذو شجون



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



[1] استقلال الكويت الفعلي كان في 19/6/1961 ، و لكن تكريمًا للامير الراحل الشيخ عبد الله السالم تم اختيار يوم إمارته عيدًا وطنيًا للشعب لأنه أبو الاستقلال و الدستور .



[2] قبل يومين نشرت القبس وثيقة تاريخية يحصل فيها ( بن هويدي ) على براءته من ( النوخذة ) ، لتكون صك نجاته !



شاهد الوثيقة : اضغط هنا .



[3] الواقع أن الكويت نتيجة لهذا التناشز الإجتماعي و ما ترتب عليه من صراع سياسي واضح في نهاية الستينات و السبعينات و ما ترتب عليه من سياسة التجنيس و غيرها أصابتها ردة حضاريّة واضحة ، من طبيعة المجتمعات البشرية أنها بحسب ما يقوله ابن خلدون تعاني صراعا ما بين البداوة و الحضارة و هذا الصراع يستلزم في احدى مراحله أن تُصاب المجتمعات بحالة من التفسخ و الإنحلال الأخلاقي و لا أظن أن ما يحدث الآن يخرج من هذه الدائرة و العياذ بالله .

هناك 19 تعليقًا:

why me يقول...

بوست اكثر من رائع

بو محمد يقول...

رائع جدا ما كتبت و الله
يا سفيد، أتفق مع كل فكرة ذكرتها
دمت و الأهل و الأحبة برعاية الله

TruTh يقول...

يعطيك الف عافية على البوست القيّم

عسى الله يعدل الحال و ترد الكويت درة الخليج

وكل عام و الكويت و انته و كل أهل الديرة بألف خير

Manal يقول...

احسنت
كل عام وانت بخير

والحديث ذو شجون

:)

Salah يقول...

وكأنها شهادة على العصر

كل وعام والجميع بخير


:)

Deema يقول...

مقال رائع

http://deemaland.blogspot.com/2009/02/blog-post_14.html

كبرياء وردة يقول...

كالعادة مقال فوق العادة:)

وكل عام وانت واهلك وكل شعب الكويت بخير ولو انها مناخرة

bakah يقول...

سفيد .. ايها العزيز .. :)

ستجبرني على ان ادعو الله ان يجعل في كل طريق تسلكه منظرا من المناظر التي شاهدتها على طريق الخليج , حتى تكتب لنا موضوعا بهذه الروعة .. :)

..
يجادل الكثيرون على ان دبي تدرجت في التطور , حتى وصلت لما هي عليه الآن , بينما الكويت سارعت لنهاية السباق كما تفضلت ..

بينما انا ارى ان العرب جميعا يتصفون بصفة احدى السيارات اليابانيه تسمى ديدسن .. :)

سامع المقولة الشهيرة: مثل فزة الديدسن ؟ :)

الديدسن وانيت ( عربانة ) , فزتها لما تحطها بأول حيل حلوة , بس بعدين تخق .. :)

احنا مثل الديدسن , فزتنا كانت حيل حلوة , ولولا اننا بنينا الجامعة والمستشفيات من البداية لما بنيناها إلى الآن ..! :)

دمت بخير ..

ملاحظة:
انت مطلوب في مدونتي , عندي حديث معك :)

سـهـيـر زكــي يقول...
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
مركبنا يقول...

كما قلت اخونا الحديث ذو شجون
كان الله بالعون

الامل في شباب الجيل القادم
مثلك وشرواك

@alhaidar يقول...

لا أملك أكثر من قول .. كل عام وأنت بخير ..

وأزال الله الشجون من حياتنا حتى يمحى من تدوينتك ..

تحياتي ..

Safeed يقول...

why me ،،
.
ma6goog ،،
.
بو محمد ،،
.
TruTh ،،

.

Manal ،،
.

Salah ،،
.
.

شكرًا للمرور :)

Safeed يقول...

Deema ،،

أشكركم لهذه الإلتفاتة المكملة ،
الواقع أن المقالة المذكورة تشير لهذا الشيء من زاوية أخرى :)
شكرًا .

.
.

كبرياء وردة ،،

و أنتِ بخير و عافية إن شاء الله :)
شكرًا .

.
.

مطعم باكه ،،

بالضبط ،، فزة ديدسن :)
كان من الممكن أن تكون فزة فيراري و لكن للأسف أن العقد التي حملت من القرن الماضي أثقلت الحمل فشوهت المستقبل .
التنمية توقفت عندنا منذ سنة 1982 ، كل ما حدث بعدها هو إعادة تهيئة لما افرزته " فزة " الستينات و السبعينات بحكم الوفرة المالية و الرغبة الشديدة عند النخبة ذلك الوقت في اعطاء الكويت صورة تواكب المسيرة السياسية التي خُططت لها .
و لكن منذ منتصف الثمانينات عندما تبين أن الحمل السياسي كان أكبر مما يحتمل ثم صفعة الغزو كل هذا أدى إلى توقف حقيقي عن محاولة التطوير و الإكتفاء بالتعديل . . فقط :)

- تم الإجابة بمدونتكم :)

Safeed يقول...

سهير زكي ،،

في الواقع فهذه ليست أول مرة توجه لي هذه الملاحظة ، حاولت التغلب عليها و لكن كما يبدو أن الطبع يغلب التطبع .

هذا هو أسلوبي الكتابي أحيانا قد يكون معقدا و أحيانا بسيطا و أخرى يتقافز بين هذين الاثنين ، و لكن ليس بامكاني افضل مما كان .

عموما سأحاول إن شاء الله أن أعمد إلى المزيد من التبسيط و لعلي أوفق .

شكرا للمرور ، و تم حذف تعليقكم بناءً على طلبكم .

Safeed يقول...

مركبنا ،،

هو الأمل ما يُبقينا ، لا غيره .
و إن كان الأمل صعبًا حين نرى الواقع .

شكرا للمرور :)

.
.

أحمد الحيدر ،،

و أنت بخير و عافية إن شاء الله ،
و أسأل الله أن يزيل هذه الشجون منّا أجمعين بإذنه سبحانه .

شكرا للمرور .

|:| DUBAI |:| يقول...

لا يسعني سوى قول
هنيئا لكم ..
و حفظكم الله للكويت ..
حرة دائما !

Safeed يقول...

|:| DUBAI |:| ،،

شكرًا على هذه المشاعر الطيبة ،
و شكرا على المرور :) .

ZooZ "3grbgr" يقول...

نحب الوطن رغم ما نرى من شجزن تقرح القلب .. وسنظل نحاول إلى أن يتحول هذا إلى فعل نراه بأعيننا

فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا

بدأت بالشقشقة التي جعلتني أقرأ مقرحة القلب الشقشقية

ووالله كل مرة أقرأها تغرورق عيناي بالدموع لعظمة هذا الإنسان عند هذا السطر بالذات

مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ


أحسنت يا سفيدان

رائع كعادتك

Safeed يقول...

ZooZ ،،

حب الوطن بروحه " ما يوكل خبز " ،
حب الوطن بالشعارات و الفزعات و الأغاني و الأشعار هو كحب الشعراء للخلفاء .. حب مستمد من خزانة " بيت المال " .

لا يفيد حب الوطن إذا لم تشخص علاته ، و لم يتم العمل على اصلاحها أو على الأقل تهذيبها و تشذيبها .

كما لا يفيد التغني بحب الوطن حين يكون هذا المغني هو أول من يكفر به عند الحاجة .

ليس هناك شيء يدعو للتفاؤل سوى ( الأمل ) و الأمل إذا طال يتحول إلى ( سوء عمل ) .

.
.

في زيارة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام :
" السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته أنت أول مظلوم و أول مغصوب حقه صبرت و احتسبت حتى أتاك اليقين ... "