14 مايو 2009

[ II ] : البحث عن الوطنية



.
هذا الخلل الذي تحدثتُ عنه سابقًا هو تحول فكرة الوطنية إلى "كرة مشتعلة" يحاول كل شخص قذفها على الآخر هربًا من سخونتها و خوفًا من حرقها له ، و السبب هو أنه حين تضعف الدولة أو كما عبر عنه ابن خلدون ( نزل الهرم بالدولة و تقلص ظل الدولة عن القاصية )* فإن الناس يفقدون الثقة بها و بقدرتها على رعاية مصالحهم دون تفرقة فيلجؤون إلى البحث عن سند آخر يكفل لهم حقوقهم هنا "ينتكص"** كل شخص لإنتمائه الذي يقويّه و يعطيه القدرة على مواجهة العقبات التي تظهر في طريقه فالبعض يلجأ لقبيلته و الآخر لعائلته و الثالث لطائفته و الرابع لتيّاره السياسي الذي يملك تأثيرًا على الساحة و كل هذا لحماية أنفسهم و مكتسباتهم أو ينتكصون للصعود على أكتاف الدولة لفرض مكتسباتهم و رغباتهم عليها.
.
و لأنهم يشعرون بهذا الخلل فهم يحاولون ايهام أنفسهم بأن الخلل في الآخرين و ليس فيهم ، بحيث تصبح كل فئة تشعر بانها مهددة من الآخر لذلك يضطر كل منهم إلى الإختباء خلف مصطلح (الوطنية) و يستعمله كفزاعة يخوّف بها أي متحدث عن واقع هذا الخلل ، فنحن جيدون و نحن ملائكة و الله لا يغير علينا و من يتكلم عن وجود طائفية و عنصرية و قبلية هو شخص مستورد لا يريد الخير للبلاد!
.
التعارض الذي يشعر به هؤلاء ما بين ما يمارسونه و ما يعتقدونه في دواخلهم يُظهر عدم انسجامهم مع أنفسهم ،و حتى يبعدوا عن أذهانهم هذه المعاناة يلجؤون لتعيير الأطراف المقابلة بها ، فالراحة تكمن في ابعاد النظر عن المعاناة الشخصية إلى معاناة الغير كما يقول نيتشه ،و لم يعد من المستغرب الآن أن يتسربل بلباس الوطنية كل مارق و سارق ،و أمسوا حتى يبعدوا الشبهة عنهم يلقلقوا ألسنتهم بالأغاني الوطنية كي لا يتهموا بأنهم "لا وطنيون" .
.
التساؤل الذي يُطرح هو لماذا أصبح الحال كذلك؟

.
و جوابه بسيط جدًا ، السُلطة هي صراع و لكنه في الدول الحضارية يُمارس كصراع فكري تكون نتيجته دعامة إضافية لقيم المجتمع بينما تحول عندنا إلى صراع إقصائي و هو أسوء أنواع الصراع ،في مرحلة من مراحل الدولة أصيبت بـ"الشيخوخة المبكرة" كان من نتيجتها أن أصبحت الحكومة خوفًا من أطراف معينة تساند بعضها على حساب الآخر ،أصبحت هي ذاتها طرفًا في الصراع مع مكونات الشعب و بدلاً من أن تقف على مسافة واحدة من الجميع و أن تكون كما المطلوب منها في خدمة الشعب أصبحت تثقل ميزان بعض الأطراف على حسب مصلحتها ليصبح الشعب أو ( نوابه ) في خدمتها! ،هذه الشيخوخة أدت إلى حالة من التفسخ أصبح بموجبها الناس قادرون على التملص من واجباتهم بالرشاوى و الوساطة و غيرها و الحكومة لا تهتم بذلك بل و تشجعه في بعض الأحيان و تسهل أموره طالما أنها تتوهم أنها بذلك تحفظ قوتها.
.
حين تصبح الحكومة في محل اعتقاد شعبي أنها ندٌّ له و أن التعامل على مبادئ الرشوة و المحسوبية و الواسطة و التنفيع و المحاصصة جارٍ بها و لا يكون هناك مجال للكفاءة و المساواة و العدل كما هو المرجو منها أو حتى تطبيق سليم للعهد الموثق ما بينها و بين الشعب و هو الدستور، من الطبيعي أن تبرز نغمات الطائفية و القبلية و الحزبية ، كذلك حينما تدخل الحكومة في طرف المساومة مع بعض مكونات الشعب ،أو تدخل في حرب تضييق شديد عليهم أو توزع المناصب بناءً على الحسابات السياسية لا الكفاءات دون وجود قانون يسوّغ لها أي من ذلك ، بل و حتى في تسترها على النهب المتواصل و سكوتها عن التراجع الرهيب و التهلهل في مفاصل الدولة فإنها تضع نفسها في موضع المحارب لمصالح الشعب و منطقيٌ أن لا تكون هناك ثقة عند الشعب بمن يحاربه.

.
نحن إلى الآن و بعد 48 سنة على الإستقلال لا نعلم إن كنّا سندخل السنة القادمة و نحن نعمل بنصف مواد هذا الدستور أم لا ! و لا زال الشعور السائد هو التخوف من لحظة الإنقلاب عليه، فهو و إن كان لم يدخل حيز التطبيق الكامل إلى اليوم إلا أنه لازال يعطي شعورًا و لو ضمنيًا بالأمان من ناحية كونه ينص بصراحة على الحقوق المكفولة، و أن هناك مستند قانوني في نيل هذه الحقوق من خلال التحاكم إليه في النهاية، هذا الذي يحيي الأمل و الرجاء ببقائه عند الناس فهم بحاجة لمن يوليهم الثقة بكفالة حصولهم على حقوقهم ، و هذه الثقة أصبحت مهزوزة من كثرة الحديث عن تعطيل الدستور مما يعمق الشعور بعدم الأمان و الإطمئنان.

.
هذه الحالة التي نراها اليوم هي نتيجة منطقية و معروفة بعلم الإجتماع فيما يسمى بدائرة الإنحطاط، دائرة تمر بها كل الدول التي تعاني من (ضعف الدولة) و لا أدل من حال العراق في نهاية الدولة العثمانية و غيرها العشرات من الأمثلة على مدار التاريخ البشري ،حينها يشعر الناس بأنهم بحاجة (لشيء آخر) يقوم بالمهام المفترض من الدولة أن تقوم بها.
.

الوطنية هي شعور وجداني و مبدأ عقلاني و ليقر بالنفس فهو بحاجة لأن يتحول وجدان الشخص إلى الإعتقاد بأن الدولة قادرة على ضمان حقوقه كما هي دون الحاجة لتهديدها أو لسلوك الطرق الملتوية، الشعور الوجداني يحتاج لان يكون في الوجدان أي كامنٌ بالنفس و يظهر بسلوك الفرد و اختياراته لخدمة وطنه ،أما ابتذاله بكثرة الحديث المجرد عنه و تحويله لسيف تحاكم به النوايا فهو أمرٌ مستقبح لأنها محاكمة تستمد شرعيتها من محاكم التفتيش سيئة الذكر.

.
البحث عن الوطنية عند الأفراد وحدهم خطأ فهؤلاء تحركهم غريزة الشعور بالأمان و يطلبونها حيثما كانت، البحث عن الوطنية يجب أن يكون في السلطة فهي الوحيدة القادرة على بث الحياة فيه و هي الوحيدة القادرة على إبقائه كغطاء يسحب أي تعالي للطائفة أو القبيلة أو العائلة أو التيّار فوق مصلحة الدولة ،رمي تبعية المواطنة و الوطنية على كاهل الشعب وحده لا يستقيم مع دور الدولة في حفظ مصالح الشعب و رعايته ،تنازلها عن دورها و تسليمه لفئات أو لأشخاص في بعض الموارد و اصطفافها أو رضاها بصراع أطراف ضد الأخرى في سبيل الحفاظ على (وهم القوة) الذي تعتقد أنه بيدها هو الذي يمزق شعار الوطنية ،ويجعلها ملجئًا لكل من يفتقدها لكي يستغلها في محاربة الآخرين ممن يخالفونه بالرأي و التوجه.

.
حب الوطن ليس بالكلمات و لا بالأغاني و لا الشعارات وحدها بل هو بالسلوكيات و الأفعال و من يفتقدها يحاول التعويض عنها بمثل هذه الأشياء ليستر فقدانه لها، إن أرادت الدولة جعل الوطنية سلوكًا فعليًا يؤمن به جميع الشعب كأولوية فعليها قبل كل شيء أن تـُشعر هؤلاء بأنها ضمانهم الوحيد لحقوقهم قولاً و الأهم من ذلك فعلاً و أن الدستور هو المحتكم إليه و أن الكفاءة و العدالة و المساواة هي منهجها الوحيد في التعامل ، دونه فلا عجب أن تكون جميع الإنتماءات الأخرى مصلحتها فوق مصلحة الوطن عند البعض و أن لا تكون الوطنية سوى شعار يتذكرونه في الإنتخابات و في الأعياد الوطنية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الفصل الـ 20من مقدمة ابن خلدون ( الـ21 في النسخة المطبوعة عندي ).

** النكوص : الرجوعُ إِلى وراء وهو القَهْقَرَى. ( لسان العرب )

هناك 14 تعليقًا:

Yin مدام يقول...

ماشاءالله


بوست رائع بجزئيه يا سفيد المفيد وقواك الله

استفدت من فرائته الكثير

:"إن أرادت الدولة جعل الوطنية سلوكًا فعليًا يؤمن به جميع الشعب كأولوية فعليها قبل كل شيء أن تـُشعر هؤلاء بأنها ضمانهم الوحيد لحقوقهم قولاً و الأهم من ذلك فعلاً و أن الدستور هو المحتكم إليه و أن الكفاءة و العدالة و المساواة هو منهجها الوحيد في التعامل"

من أسوأ ما وصلنا إليه في قتل الوطنية والإحساس بالعدالة .. إفشاء ثقافة الواسطة إلى أن وصلت إلى مرحلة استخدامها للحصول على حق مشروع :((


ما بعد كلامك كلام ولا تعقيب أكثر


الله يزيد في علمك ويبارك لك فيه ويقضي جميع حوائجك بحق الواحد الأحد

:))

Mohammad Al-Yousifi يقول...

اتفق معك

بو محمد يقول...

مافي خلاف كلش
:-)

أحسنت يا سفيد في طرحك

دمت و الأهل و الأحبة برعاية الله

الفيدرالي يقول...

كلام سليم 100%

شاكر لك أخي العزيز سفيد على هذا الموضوع الشيق

بارك الله فيك

تحياتي لك

Deema يقول...

الترجمة و الالتباس. الوطنية عندنا تؤخذ عاطفيا، nationalism هي حركة أوروبية نشأت على غرار فكر مجموعة من الفلاسفة و كأي بحث في معنى عام كالوطن، ينشأ الاختلاف في الرأي و الفهم، فتنشأ الصراعات ثم تنتهي ليأتي عقد جديد بفكر جديد. هؤلاء الفلاسفة كتبوا بحوثهم في القرن ١٨، و لا يجب أن نظل محدودون في أفكارهم التي رأينا تأثيراتها و تبعاتها و درسها الدارسون أي باتت قديمة. يجب أن نتابع التاريخ الفكري اول باول.

kumarine يقول...

العزيز سفيد:
ما هو تعريف الوطن ؟
للبحث عن الوطنية لا بد اولا" من ايجاد ما يربطنا معا كمجتمع .... الكويت لها من الخصوصية ما نحسد عليه
فنتيجة لتمازج الاعراق و الاصول- ( كلنا من ادم و ادم من تراب ) - نتج عنها مجتمع القادة الاول ...
ما نفقده هنا اليوم هو القادة لا نفتقد المثل فهي لازالت موجودة الا ان القائد و ليس بالضرورة يكون قائدا دينيا او مدنيا ........ما نطلب هو قائد لمجتمع له واجبات و له حقوق و لا يربط حصوله على حقوقه قبل ادائه لواجباته .
ودي اشوف و اطلع على مكتبتك
شوقتني للرجوع الى شراء الكتب من جديد بعد توقف قسري
و دمتم بعافيه و الف خير

غير معرف يقول...

سفيد

اغبطك .. فأنت صاحب ملكة ثقافية نادرة للغة جمالها الخاص في قلبك

من زمان وانا ودي اسجل اعجابي برصيدك الثقافي والفكري

الله يوفقك

؟؟

MakintoshQ8 يقول...

ماشاء الله ترابط الموضوع لا يعلى عليه

""الكفاءة و العدالة و المساواة هو منهجها الوحيد في التعامل ""

متى بس يتم تطبيق هالكلام ؟؟

bakah يقول...

لن ازيد على مديح الأخوة .. :)
مقالة مصففه .. :)
دمت بخير عزيزي سفيد ..

Safeed يقول...

مدامYin ،،
------


الواسطة ليست ثقافة مستوردة و لا ثقافة حديثة الظهور ، هي نوع من أنواع الترابط الإنساني قديم الوجود، كانت تناسب مجتمعات تقوم على علاقات اجتماعية من المفترض أن يكون قد تجاوزها الحاضر بقيمه و نظامه الجديد ، و لكن العودة له مجددا و استخدامه كأصل ينبئ أن مجتمعنا لم يهضم التطور الحاصل اليـوم و أن السلطة ساهمت بإزدياد عسر هضمه للوطنية و مفاهيمها.

شكرا



-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-



مطقوق & بومحمد & علي إسماعيل الشطي ،،
--------------------------------



شكرًا :)



-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-



Deema ،،
----



مفهوم الوطنية يطرح في الغرب على أنه مرادف للقومية (الأممية) و أتفق معك تماما بأنه فكر انتهى زمنه و بحاجة لتطوير كثير.

إلا أنه عندنا يطرح كمفهوم منفصل عن معنى القومية و إن كان هناك كما تفضلتِ إلتباس عند الكثير في عدم قدرتهم على الفصل بين المعنيين ، ما أعنيه أنا بالوطنية هنا هو شعور الإنتماء ، الشعور الوجداني بقيمة تقديم الخدمة العامة بغض النظر عن الطرف الآخر المستقبل لهذه الخدمة.

في الفلسفة و العلوم الطبيعية هناك حقائق ثابتة ، بينما في علم الإجتماع هناك حقيقة نسبية ترجع لطبيعة المجتمعات ما يفشل بأحدها قد ينجح بالآخر لاختلاف التعاطي معها، مفهوم الوطنية بإمكانه النجاح عندنا في المفهوم العام الدارج له لا كما ذهب و نظر له القوميون في أوروبا ليس بحاجة سوى لإعادة تهذيب في مفهومه و فصله عن الاشتقاق (الأجنبي) له.

كل ما نحتاجه هو ( الوعي بالحاجة له)

شكرا




-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-





Kumarine ،،
----



الوطن و الوطنية مفهومان مترادفان ، من يفهم الوطن على أنه بقرة حلوب يفهم الوطنية على أنها صيغة مؤقتة للارتباط بهذا الوطن ، و من يفهم الوطن بالانتماء وحده يفهم الوطنية على انها تقوية هذا الانتماء على حساب أي فكر آخر يحمله ، و الحقيقة هي أن الوطن مفهوم نسبي يقبل تعريفات عديدة و لكنه يملك خيوط عديدة تعتبر ثابتة (مطلقة) أولها أن الوطن هو الهويّة الذي يصبطغ بها من ينتمي له.


نعم نحن نملك خصوصية و لكن هذه الخصوصية اضمحلت بسبب التعامل الخاطئ معها حين تدخل الدولة بأجهزتها كطرف مقابل طرف آخر هنا لا يجد الفرد نفسه سوى بحالة رجوع للحصول على ثقل يكفل له مواجهة ذلك الطرف فيرجع للطائفة و القبيلة و غيرها ، هذا لا يعني ان انتماء الفرد يعارض الدولة او الوطن إنما التعامل معهما عندنا وضعه في هذا الموضع فالخلل كما تفضلت هو بطريقة تقديمنا للوطن و الوطنية و ليس فيهما بحد ذاتهما.

هؤلاء المُثل الذين يستطيعون المزاوجة بين الاثنين و تقديهما بصورة حسنة مقودين عندنا لأسباب عديدة من ما ذكرته بالموضوع من شعور كل طرف بالتهديد من الآخر.

شكرا على المشاركة :)

- المكتبة متواضعة جدا هناك بعض الكتب سأتحدث عنها إن شاء الله في مكتبة سفيد مع مرور الأيام
أما القراءة فمن المؤسف أن يبتعد عنها الانسان :)

دمت بخير.





-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-


غير معرف ،،
---------


شكرا :)




-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-




Makintosh،،
--------


يتم تطبيق هالكلام متى ما حدث هناك وعي و شعور (بالحاجة لهم)،و الحاجة تنبع من الافتقار.
طالما أن السلطة (مستانسة) على الوضع الحالي .. فلا جديد و سيستمر التراجع.

شكرا



-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-


مطعم باكه ،،
------


عودا حميدا :)
شكرا

WajeF يقول...

welcome to my favrouts =p

Salah يقول...

أحسنت على هالطرح الراقي

Safeed يقول...

WaGeF ،،
---

أهلاً و سهلاً بك :)


شكرا :)



-=-=-=-=-=-=-=-=-=-


Salah ،،
---

و أنتم من المحسنين إن شاء الله ،

شكرا :)

ولد الديرة يقول...

"البحث عن الوطنية عند الأفراد وحدهم خطأ فهؤلاء تحركهم غريزة الشعور بالأمان و يطلبونها حيثما كانت، البحث عن الوطنية يجب أن يكون في السلطة"


كان عندي تعليق

بس خلاص بطَّلت

اتفق معك ومع Deema

:)