11 أغسطس 2010

الطقس الرمضاني


لا أعلم كم وصل عددها إلى الآن، لكن من المؤكد أنها تعدت حاجز العشرة، مرة تلو الأخرى يُطرح ذات السؤال وكأنه كُتب عليه ألاّ يقنع بإجابة أبدًا، ما هي طقوسك في شهر رمضان؟

.
يحب الناس أن يدسّوا أنفسهم في مقارنات مع غيرهم. لا يريد السؤال إجابة لأنه لا يبحث عنها، بل يبحث عن معرفة ما تمارسه في هذا الشهر الفضيل ليتم إدخاله في أحد جداول المقارنة مع ما يمارسه الآخرون، ومن خلال ذلك، وبكل بساطة، يتم التخلص من الشعور بذنب التقصير حين يُتصور التفوّق لطرف على حساب آخر.

.
نحصر أنفسنا في خيارين، نتصور التضاد بينهما لأننا لم نعرف التوفيق بينهما ولم نفهمها جيدًا، بين الدين والدنيا، وحين نرى الآخرين لا يقدمون على فعل ما نفعله نشعر بالرضا لأننا كفرنا عن ذنوبنا وبتنا أكثر إيمانًا. مصيبة هذه المقارنات أنها تقدم المبررات لكل شيء، وتجعلنا ننجر للتهوين بلا مبالاة، وتمتلئ نفوسنا بالكدورات دون أن نشعر. فنقدم جميع الأعذار لتبرير تقصيرنا وتهوينه، بمقارنته مع تقصير الآخرين.

.
ليس أسهل من أن نتصور أفضليتنا لمجرد أننا صلينا ركعتين أكثر من الآخرين، أو قرأنا جزءًا قرآنيًا إضافيًا، ولا أيسر من اعتقادنا بأفضليتنا لمجرد أننا لم نرتكب جرمًا ما ارتكبه الآخرون. فـ"على الأقل ما سويت اللي سواه فلان"!. هذا الدس للنفس بين خيارين هو كذب عليها، نوع من الكذب الذي يبحث عنه، فالإنسان المملوء بالنواقص لا يحب أن يستمع لمن يشير إليها، لذلك يفضل المدح على الذم و إن كان كذبًا لأنه يمثله بصورة الكمال، بعيدًا عن نواقصه و سوء طباعه.

.
وهكذا بدأ العجب في نفوس البشر، منذ الخليقة، يستتر تحت السلوكيات المخادعة.

.
لا أظن أن طقوس شهر رمضان الخاصة يمكن تعميمها، ولا تفيد معرفتها، لطالما كان اعتقادي أنها تفقد كل معانيها إذا خرجت من كونها حالة فردانية إلى طقوس جماعية. فهي مثل العرفان والتصوف حالات روحانية فيها إشاراتٌ وتنبيهات، وعوارض تعرض على النفس فتحولها من حال إلى حال، لتصل بها إلى الاستكمالات الجوهرية، كما وصفها صدر المتألهين رحمه الله.

.
ليست الطقوس الجماعية إلا جزءًا يربط ما بين هذا العالم الخارجي، وما بين العالم الداخلي. هي جسر للتناغم بين العالم الذي يحيط بنا، والعالم الذي يعيش داخلنا، فهي المدرج، الذي تعرج به النفس من ارتباطها الدنيوي إلى ملكوتها الأخروي، ومن ثمّ يكون المسير منوطًا بطقوس الفرد وحده.

.
«معظم من تحت الأرض كانوا يظنون أن برحيلهم سيتوقف العالم»*، ولم يتوقف جريان العالم على أحد. أعتقد أن أحد عشر شهرًا من كبت أصواتنا لحساب أصوات الآخرين، واستعارة كلماتهم، ومتابعة أفعالهم، ومن عيشنا لأجلهم لا لأجلنا .. يكفي. ويأتي الدور في هذا الشهر لنستمع فيه إلى صوتنا، وإلى خطاب ذاتنا المنسية وسط أكوام الحياة اليومية التي نعيشها وسط النفوس الشهوية، والنفوس الغضبية، والشيطانية، وكل همها إرضاء الشهوات، وتلبية رغبات القهر والإنتقام، بالمكر والشر.

.
نحاول التخلص من هذه القبائح كلها بأن نخدع ونناور أنفسنا بوضعها قبال الآخرين، الأقل منّا غالبًا، ولا نفكر بأن نضعها أمام الأفضل منّا، خشية من اظهار عيوبنا.

.
هذا الشهر هو فرصة، للتعرف على نفوسنا. للعودة إلى الذات وإعادة اكتشافها، هذه الذات التي فقد الاتصال معها طوال السنة، وطمرت تحت شتى أنواع الكدورات مستترة بعناوين مختلفة: مداراة الآخرين،و تتبع هفواتهم. ومحاكمة السياسيين، والبحث عن تصريحاتهم، والتشكي من ردود الفعل تجاهنا، والتذمر من كل شيء حولنا، من الطعام إلى الطقس إلى العمل وحتى ممن يتقاسمون معنا هموم اليوم.

.
دون إلتفات إلى أن الاهتمام بأسرار الغير، يغمض العين عن أسرارنا، وبحثنا عن نقائص الآخرين، يجعلنا نهمل نقائصنا، وشيئًا فشيئًا نفقد الارتباط مع نفوسنا، ونكتفي بظواهر سلوكنا، ونعتقد أن السلوك وحده يمكن أن يبرر لنا كافة خطايانا، لأننا لم نعد نتعرف على ذواتنا، ولم نعد نعرف عيوبها، التي اندست تحت أقنعة مختلفة لتصيبنا بالإزدواج.

يُحكى أنه « كان لمعلم مئات التلاميذ، يصلّون جميعهم في الساعة المحددة باستثناء واحد يكون ثملاً طوال الوقت.
في أحد الأيام شعر المعلّم أن ساعته اقتربت، فدعا السكير ونقل إليه أثمن معارفه ممّا أثار سخط الباقين، فاحتجوا قائلين:
يا للعار! لقد ضحينا بأنفسنا من أجل معلّم معتوه يعجز عن الإقرار بمزايانا.
فأجابهم المعلم:
كان عليّ أن أكشف عن أسراري لرجل أعرفه حق المعرفة. أولئك الذين تبدو عليهم التقوى، غالبًا ما يستتر فيهم التكبّر والأنانيّة والتزمت. ولهذا السبب اخترت الرجل الوحيد الذي يُظهر عيبه علنًا: عيب الثمالة.
»**

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من كلمات الإمام الخميني - أنقلها بالمعنى بحسب ما علق بذاكرتي.

** كويلو، مكتوب، 143.

هناك 20 تعليقًا:

panadool يقول...

مبارك عليك الشهر

فآطِمهْ يقول...

اللهم إجعلنآ من المتقربين و المشتآقين دوماً لـ طآعتك ، و الرآجين لـ رضوآنك ، و المعترفين بـ أخطآئنآ أمآمك
أحسنتم ،
وبلغكم الله رمضآن بـ الطآعة و الغفرآن

Deema يقول...

في رمضان نجوع، فنلتمس الشبع من الحكايات أو المناقشات الأرأيتية في المسائل الفقهية..

علينا و عليك :)

غير معرف يقول...

كلام جميل جداً، ينقصه التطبيق.

مبارك عليك الشهر، كل عام وأنت بخير.

زينب علي حبيب يقول...

كلام جميل جدا

أما رأيي ... فهو قد نتشجع على بعض أعمال العبادة ... من قول الله عز وجل

( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ )

( وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )

صدق الله العلي العظيم ... هذا هو رأيي في موضوع السؤال عن الأعمال التي يقوم بها البعض ... و أما باقي النقاط فجميلة جدا ... وفقك الله عز وجل إلى ما يحب هو ويرضى

وشهر مبارك للجميع إن شاء الله تعالى

Seldompen يقول...

الباحثون عن خصوصية الأفراد , وبالأخص الأفراد الذين يتعايشون معهم " من أفراد العائلة أو الأصدقاء " ببحثهم وسؤالهم عن بعض الأمور التي قد أسلفت ذكرها " مثل طقوس رمضان " فالسائل إما أن يريد الإجابة ليعرف هل هو أفضل منه من تلك الناحية التي سأل عنها , فيشعر بنشوة الأنتصار والفخر على صاحبة " في ذاته " , والتي لا أرى سبباً لذلك , إلا ليسد شيء من النقص الذي يعلم هو حقيقته فيه لكنه يريد أن يسد النقص بمثل تلك الأحاديث , وبعضهم أرى أنه بسؤاله إنما يريد أن يتبع الطريق ذاته في طقوس صاحبة " لكونه يفتقد القدرة لتنظيم طقس خاص به " كونه غير معتاد على مثل تلك الطقوس في الأحدى عشر شهر الماضية , ويالسخرية الزمن حينما أسمع بعض من حولي يخبرون بعضهم بفخر " نحن لا نستمع للأغاني في شهررمضان !! " أو في ذلك فخر ؟ وكأنهم محاسبون بأضعاف مضاعفة لسمعهم لها في رمضان , وفي باقي الشهور يخفف الحساب ..

لله في خلقه شؤون ..

أحسنت أخي سفيد , وكثر الله من أمثالك من أصحاب القلوب النقية , والأقلام الراقية ..

لاتحرمنا من عطائك ..

ورمضان كريم :)

غير معرف يقول...

الأخ pen seldom
جميل أن يصدر منك هذا الكلام ومنّي ومن الكاتب ومن أي شخص، لكن المشكلة تكمن في أنه عندما ننادي بالابتعاد عن مثل هذه الأمور، ونكون نحن أول من يمارسها في حياتنا من حيث ندري أو لا ندري، فليس الغرض من ذلك مجرد الكتابة أو الكلام الغرض من ذلك كله التطبيق.
عندي موقف حصل لي قد لا يمت بالموضوع بشكل مباشر، أملك صديقاً وكلمة حق هو إنسان متميز، تفاجأت منه أنه بدأ يتدخل في خصوصياتي ويحلل وينتقدني في كل صغيرة وكبيرة لدرجة السخرية والإساءة والتشويه ولم تكن انتقاداته وتحليلاته إلا ظنون لا تمت بالواقع بصلة، فعندما وجهت إليه نصيحة يوماً ما بأن يتوقف عن ذلك –وهذا من حقي- وأن الإنسان قبل أن يتفقد عيوب الآخرين أن يتفقد عيوب نفسه، أخذ هذه النصيحة محمل شخصي، وبدأ يتهمني بالحسد وأن سلوكي هذا تعويضي نابع من عدم الثقة و من النقص وأني أريد منه أن يشابهني، وفي الحقيقة كانت صدمة كبيرة لنفسي من أن يصدر كلام مثل هذا من صديق، فما كان منّي إلا أن أبين موقفي و أصمت وأنا في قرارة نفسي بأن الحوار مع هذا الصديق -رغم احترامي وحبي له- لا ينفع ولا يجدي إلا فيما يوافق أفكاره، وقد صرّح بأنه لا يتقبل النقد إلا ممن هم أعلى منه مستوى، وبما أني أقل منه مستوى إذاً لا مجال بأن يتقبل النقد مني.
وفي الحقيقة لا يهمني النقد بقدر ما يهمني تصحيح السلوك. ومن الأفضل أن ننظر إلى الناس دوماً بنية حسنة وأن نتقبل النقد حتى ممن هم أقل منا علماً أو عمراً.
وعندي قناعة ذاتية أتمثل بها غالباً، شخصان عليك أن تتوخى الحذر منهما: من يراك بعين الكمال وكثير النصح، فإن من يراك بعين الكمال متملق كذاب فعليك الحذر منه، أما كثير النصح فهو ينظر لنفسه بعين الكمال لذا يستحسن الابتعاد عنه.

أخ سفيد..أشكر لك إبداع قلمك

why me يقول...

مبارك عليك الشهر

وكل عام وانت بخير

well_serviceman يقول...

مبارك عليكم الشهر
وينعاد علينه وعليكم بالخير يارب
تحياتي

Safeed يقول...

panadool،،

علينا وعليك إن شاء الله.
شكرا.

===

ٵنثے ملآئكيـﮧ ~ ،،

آمين

شكرا

===

Deema،،

حتى هذه قررت اعتزالها هذه السنة.

شكرا :)

===

غير معرف،،

التطبيق يعود إلى ذات الشخص: النية ثم الإرادة.
أول خطوات حل أي معضلة، هي الاعتراف بوجودها وتقبل حدوثها. ومتى ما عُرفت أمكن علاجها.
وجهاد النفس وعلاجها دائما أصعب من علاج مشاكل الآخرين، لذلك لا تستغرب إن وجدت من يعطي الحلول للآخرين، ولايلتفت لحاجته إليها، بل ويستنكرها على نفسه.
مثل هؤلاء يمثلون معظم البشر، وطالما أن الخلل فيهم، فليس عليك إلا العمل على إصلاح نفسك، فهي أولى من فقدها لاصلاح الآخرين.
وطوبى لمن انشغل بهذا الشهر بنفسه، عن غيره.

شكرا :)

Safeed يقول...

..pen seldom ،،

أوجزتِ فأجدتِ.
شكرا :)

===

غير معرف، نفس الإجابة على غير معرف :)
شكرا :)

===

why me،،

علينا وعليكم إن شاء الله.
شكرا

===

well_serviceman،،

علينا وعليكم إن شاء الله،
شكرا :)

حُسين مكي المتروك يقول...

نعم، هذا هوَ الأبيض الذي إشتقت لقراءة كلماته،

قراءة الذات، شيء مميّز جداً، وعلى وجه الخصوص إذا ما تمكّنا في هذا الشهر الفضيل من تطهير أنفسنا ذاتيا، بشيء من العمل. لا الكسل، أو التكاسل بأي شكل من أشكاله، التي ذكرتها صديقي الأبيض :)

وشهر مليئ بالطاعات إن شاء الله،

فريج سعود يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
فريج سعود يقول...

مبارك عليكم الشهر وعساكم من عوادة وتقبل الله اعمالكم

|:| DUBAI |:| يقول...

مبارك عليك الشهر الفضيل

صحيح؟ المقارنات تشتغل عند أقرب مناسبة
حالة من عدم الارتياح .. بين ما قدمته و بين ما قدم فلان؟

بالتأكيد الافضلية ستعود الى انا ..

الا اذا الضمير اشتغل صح ..

و الحلو اذا الغبطة اشتغلت ..

اللهم اجعلنا من الذين يطبقون كل شيء بحسن و صدق نية ! : )

Safeed يقول...

حُسين مكي المتروك،،

لنا، ولكم إن شاء الله.
مبارك عليك الشهر :)
ولا تنسانا بدعائك،

شكرا.

====

فريج سعود،،

علينا، وعليكم إن شاء الله.
شكرا


====

|:|DUBAI|:| ،،

آمين.
علينا وعليكم إن شاء الله،
شكرا :)

المرفأ يقول...

السلام عليكم ومبارك عليك الشهر وتقبل الله أعمالك كلها وردا واحدا. أما حالة (بلاغة الشف) التطفل عند البعض فهي تعبر اما عن حالة فراغ أو الشعور بالنقص ,والشعور بالنقص أقوى من الشعور بالرطوبة مع الجو الحار وأنت صائم في شهر 8 والله يتقبل. مقالة أكثر من رائعةوفقك الله وأنا من المتابعين.

اقصوصه يقول...

مبارك عليكم الشهر

وكل عام وانتم بخير :)

S-Q8 يقول...

موضوع مثير للاهتمام.. و اتفق معك في مسألة ان هذا الشهر فرصة للتعرف على انفسنا لا مقارنتنا بغيرنا

و شيء جميل اني قرأت موضوعك في نفس اليوم الذي كتبت فيه شيئا من هذا القبيل في مدونتي.. :)

يعطيك العافية على هالتفكير و التحليل الجميل
و مبارك عليك الشهر

ps.

paulo coelho is the best

Safeed يقول...

المرفأ،،

وعليكم السلام ورحمة الله،
علينا وعليك، ومنّا ومنك إن شاء الله.
الفراغ عدم، والنقص عدم، بالنتيجة كلاهما يؤديان إلى حالة من الإجبار على دسك في مقارنة دون إرادتك.

:)

شكرا

====

اقصوصه،،

علينا وعليكم إن شاء الله،
شكرا

====


Ni3Na3aH ،،

أعتقد أنه من الكفاية أن نعطي الآخرين 11 شهرًا من حياتنا، ونقتنص شهرا لأنفسنا.

مشكلتنا أننا نعيش لحساب الآخرين، أكثر من حسابنا، وفجأة نلتفت لهذا الأمر لذا تتوارد وتشترك الخواطر في مثل هذه المواضيع :)

علينا وعليكم إن شاء الله،
الله يعافيكم،
شكرا

:)