الأخلاق هي مبدأ الهداية، ممّا قرأت وشاهدت وتباحثت ازدت يقينًا بهذه الحقيقة.
كلمّا كان المرء أكثر صفاءً كان طريقه للهداية أقرب من غيره.
يتيه أحدهم، ويضيع فيسأل عن الطريق. تارة يشير له أحدهم ويدله على الطريق، وتارة أخرى، لا، يأخذ بيده ويسير به حتى الجهة المقصودة، فلم يكتف بالوصف بل قرنه بالفعل.
كل شخص في هذه الدنيا تأتيه نفحات الهداية هذه، مرة كإشارة، وأخرى كتنبيه، أغلبهم يهملها، فلا يلتفت إليها رغم كثرتها، وبعضهم يصغي إليها فتتكاثر أمامه لترسم له الطريق. أمّا لماذا يهملها هؤلاء؟
فجواب السؤال فيه تفصيلات كثيرة. سأقتصر على جانبٍ منها.
يُشار للفطرة على الغالب ويُقصد بها الغريزة أو الطبيعة التي ينشأ عليها الإنسان، ولكن هذا التحديد للفطرة خاطئ وهو السبب في سوء فهمها. لا يمكن اقتصار الفطرة على الغرائز فهي موضوعة لبقاء الجنس، الأكل والشرب والتكاثر والاجتماع المقصود منها الحفاظ على الوجود. أما الطبيعة فهي تعني استعدادات أو استجابة هذا الإنسان لهذه الغرائز، وهو مجبور على الاستجابة لها، استجابة متوحشة تجعله ينزل من مكانته كإنسان ليتحول إلى "أضل من الأنعام" أم استجابة إنسانية يرتفع بها لما فوق مستوى "الملائكة".
فالفطرة أوسع من هذه التعريفات الضيقة التي لا تعطيها حقها. هي قيم أو أفكار إنسانية بحتة لا يمكن نكرانها، تجعل الإنسان ينجذب تجاه مُثلٍ عُليا كـ"الكمال، والجمال، والعدل، والخلود، وغيرها"، وهي انجذابات لم تفارق البشر منذ الإنسان الأول إلى هذا اليوم الذي لا يزال يرفع فيه هذه القيم وعليها يبني كل نظمه الفكرية. لا تجد طوال تاريخ البشرية دعوة انطلقت إلا وهي تحمل هذه العناوين، وبها تخاطب الجماهير، وعليها تعدهم بالسعادة المنشودة.
أعجبني إلتفات العلامة* لهذه النقطة في ضمن حديثه عن الفطرة ليدلل على وحدتها، فلو كانت السعادة تختلف باختلاف الأفراد لما انعقد مجتمع واحد يضمن سعادة الأفراد، ولو كانت تختلف باختلاف الأقطار لاختلف الإنسان باختلافها، ولو كانت باختلاف الأزمنة لم يسر المجتمع الإنساني سير التكامل هذا، وهو ما يدل على وجود أمر مشترك ثابت وموّحد بينهم.
ولكن كيف نوفق بين هذا الأمر، وما نراه من الاختلاف؟
بطبيعة الحال ليست المشكلة في هذه القيم، لكن المشكلة في التعريف الذي يُصاغ لها.
للأسف أنها تنتزع من معناها السامي ليتم توظيفها في خدمة الأنانية، والاستبداد، والمصالح الشخصية، والإعجاب بالنفس.
وما بُني على أساس باطل، لا يقود إلاّ إلى الباطل. وهو منشأ الإختلاف. وهذا ما يحدث حين ننغمس في هذه الحياة فتصعد المغريات على القيم والمبادئ، وتتلوث الأخلاق، وتنطمس الفطرة. وهذا يدل على أنها لا تجبره على شيء، إنما هو مخيّر في أعماله لتتم الحجة عليه فيها كلها.
لذلك فالأخلاق هي وجود معنوي يفصح عن النفسية التي يمتلكها الفرد، هل هي ملوثة بعالم الرغبات والإنفعالات، أم أنها لا تزال على صفائها و "خيريتها". وعلى هذا الأساس تكون الهداية لصاحب الأخلاق، لخيريته فإنه يلتفت لما فيه الخير، وينتبه لهذه الإشارات و«إذا كانت النقائص موجودة أيضًا فسترتفع بواسطة هذه التجليات الرحمانية»**، فكأنه أخذ بيده للغاية المنشودة لما وضعت له الفطرة، وهي سعادة الإنسان، وهذه هي الهداية الخاصة.
هذه الخاطرة مرّت بذهني وانا أقرأ موقف الحر رضوان الله عليه حين جعجع بالإمام الحسين عليه السلام وحاصره في كربلاء ومنعه من اكمال سيره، وبعد ما جرى من حديث بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام فكان ممّا قاله في ختام كلامه: « .. والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه».
فلا عجب أن تكون نهايته شهيدًا بين يدي الحسين عليه السلام، وهو الذي قال: صدقت أمّك إذ سمتك حرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*راجع: تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، في قوله تعالى [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا..]
**جنود العقل والجهل، ص 416.
هناك 5 تعليقات:
حضور العقل في مشهد الجنون , تمام كرامة الانسانه وبوابة هدايته . ولا عزاء لاهل الانحطاط الذين لم .... ولا عرفوا شيئا من الاخلاق
ملاحظة : مابين الاقواس عليك ان تعرفها ومثلك لا يخفى عليه
اقتباس:
"وما بُني على أساس باطل، لا يقود إلاّ إلى الباطل. وهو منشأ الإختلاف. وهذا ما يحدث حين ننغمس في هذه الحياة فتصعد المغريات على القيم والمبادئ، وتتلوث الأخلاق، وتنطمس الفطرة. وهذا يدل على أنها لا تجبره على شيء، إنما هو مخيّر في أعماله لتتم الحجة عليه فيها كلها."
موجز لأسباب تردي الوضع العام وأحداث هذه الأيام وما سبقها
لا أعلم متى يعي الكل أن" كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء" لا تنحصر في البكاء والحزن على الحسين (ع) وأهل الطف
فعاشوراء مدرسة تربوية غنية بالمبادئ والمثل التي علينا تعلمها وتدريسها والعمل بها
هي نهح لكل إنسان حر وأبّي
هي امتداد لذلك الخلق العظيم
اللهم اجعلنا ممن ينتفعون من دروس الطف وممن يقتدون بأهله
أحسنت يا سفيد المفيد وطيب الله أناملك
مدام YIN
أحسنت ..
كلامك من ذهب .. بل ربما أغلى منه ..
عظم الله أجوركم بهذا المصاب ..
أحمد محمدي،،
وهل يخفى (..)؟
صدقت، ومأجور إن شاء الله.
====
مدام Yin،،
اللهم آميـن.
أحسن الله إليكم،
ولا حرمنا من دعائكم، والمؤمنين.
مأجورين إن شاء الله.
====
..pen seldom،،
أحسن الله إليكم،
شكرا، وآجركم الله.
جميلة هي الفطرة.. لكن شوهتها التعريفات الزائفة
سمعت من الشيخ كلاما جميلا عن سبب هداية الحر فهو طلب من الحسين سلوك طريق لا يدخله الكوفة ولا يرجعه للمدينة وحينما أتى وقت الصلاة صلى خلف الحسين عليه السلام وموقفه عندما قال له الحسين ثكلتك أمك واستماع الواعي لكلام احسين صبيحة عاشوراء كل ذلك اجتمع ليكون سببا لهدايته
إذن علينا ألا نستهين الأشياء التي تبدو صغيرة وبسيطة في حياتنا كابتسامة.. كلمة طيبة.. صدقة ولو بأقل القليل
لأن هذه الأمور تكون توفيق إلهي وأيضا سبب للتوفيق والصلاح
إرسال تعليق