اقرأ: الجلسة الأولى
ما هو الطول وما هو العرض؟
حين نرى مجسمًا للكرة الأرضية، نشاهد خطوطًا طولية وأخرى عرضية تغطي جميع المناطق، بحيث لو أردنا الوصول لمنطقة ما فإن مطابقة رقم خط الطول مع رقم خط العرض سيوصلنا لها. الطول والعرض اللذان أتحدث عنهما هنا، مشتركان في اللفظ ومتشابهان في العمل الذي هو الوصول إلى الغاية، لكن يختلفان بالمعنى.
.
فما معناهما إذًا؟
يحمل العرفانيون معنى (العرض) على المعيّة، ومعنى (الطول) على التقدم[1]، وإذا أضفنا الصفة اللاحقة لكل منهما سيصبح معنى (الطول الغيبي) بأنه الإمداد، أو التأييد، أو المشيئة الإلهية، ومعنى (العرض المادي) بأنه كل ما يختص بأفعال، وسلوكيات، وأعمال، ودوافع الإنسان وبواعثه.
.
هلاّ فصّلت في العرض المادي؟
برأيي، العرض المادي هو كل المجهود الذي ينبثق من الإنسان في سبيل الوصول، أو تحقيق، غاية ما، بما في ذلك متعلقات هذا الوصول كرغباته، أمنياته، طبائعه، صفاته، ولأنها ترتبط به جميعها، فهي محمولة (مع بعضها البعض) ضمن ما يشكل ماديته، أي وجوده المحسوس، ولذا أطلق على العرض بأنه المعية، أي ما يحمل معه جميع ما يشكل الوجود المادي للإنسان.
.
وما هو الطول الغيبي؟
تكاد تتفق جميع الفلسفات الروحانية والأخلاقية والدينية، طبعًا باستثناء الحسية والتجريبية، على أنّ هذا العالم تشكل جميع الموجودات فيه نظامًا متلائمًا ومتسلسلاً، بحيث لو تأثرت احدى قطع هذه السلسلة، فإن الإختلال سيكون من نصيب العالم ككل، ومنها انبثقت نظرية تأثير الفراشة[2].
هذا التناغم في العالم، يدفع إلى الإيمان بمفهوم الغيب، ما سمّاه كانط بـ«الخطة السرية» التي تقود البشرية رغمًا عنها، ولأنه يعني التقدم فهو يأتي بمعنى الإمداد، أو المشيئة الإلهية في تتويج الفعل المادي لتحقيق ما يصبو إليه لحكمة ما، ومقتضى هذه الحكمة وإن كان يظهر بأنه داعم لـ اللا أخلاقيات، إلا أنه يقود في النهاية لنتيجة أخرى.
.
كيف ذلك؟
في رؤيته للتاريخ، يرى كانط، أن «الطبيعة» قد وضعت قابليّات معينة في البشر وضمنت تحقيق تلك القابليات عن طريق تلك الميول التي يراها بالمجمل تنافسية لا اجتماعية، ولا اخلاقية[3].
.
وما الهدف من ذلك؟
الهدف من ذلك، كما يراه، هو منع الجمود عن المجتمع البشري من خلال الصراع، الذي يؤدي بدوره إلى تحقيق المسيرة التاريخية في تطور البشرية حتى الوصول إلى العالم الأخلاقي التام.
.
هل من مزيد من التفصيل؟
يمكن أن يُقال، بكلمات أخرى، أنّ الإنسان الخيّر بكل كيانه المادي، والشرير بكيانه المادي يلعبان دورًا مهمًا في التنافس والصراع[4]، لنصل إلى نتيجة محققة وهي أن الخير دائمًا ينتصر، وإذا استمرت مسيرة البشرية في تأكيد هذه الحقيقة فإن المساوئ تقل حقبة بعد أخرى، حتى نصل إلى العالم المثالي، العالم الموعود في «نهاية الزمان». فوجود الخير مساوق لوجود الشر وذلك لتأكيد حقيقة أن معرفتنا بالشر تؤدي بالضرورة إلى المعرفة بالخير.
.
وهل هذا يبرر وصول من تصفهم باللصوص إلى مثل هذه المراتب؟
عِبر التاريخ كثيرة، وأكثر من أن تحصى في بيان مصير الطغاة، وموقف البشرية منهم، وأن كل ما يحوزونه يتحول في النهاية إلى لعنات تلاحقهم تجبر البشرية على تفادي وجودهم مستقبلاً.
هؤلاء، اللصوص أو ما شئت فسمّهم، يعتقدون أنهم يسيرون بمقتضى خطة وضعوها، بينما هم الحقيقة كما في التراث الهندوسي: دمى تحركها «الطبيعة» لتحقيق خطة وضعتها.
.
هل لك أن تلخص بعد هذا، علاقة الطول الغيبي بالعرض المادي؟
باختصار مخلٍّ أستطيع القول: أن الطول الغيبي والعرض المادي مثل خطوط الطول والعرض على الخرائط، متى ما إلتقيا في نقطة أعطانا إحداثيات، استطعنا الإستدلال للنقطة من خلالها وإيجادها، إنما الهدف هنا ليس «مكانًا» بل «قيمة بشرية» مما يضفي عمقًا إضافيًا هو:الغاية.
بمعنى أن من له قابلية أن يشكل «قيمة لا أخلاقية» بأفعاله يتم إمداده ليستمر في طغيانه ليشكل طرفًا مضادًا لمن يمثل «القيمة الأخلاقية». فالوجود الشرير إلتقى فيه الخطان فأوجداه، والوجود الخيّر نفس الأمر، إنما الغاية من كل منهما تختلف، فالطول والعرض العاديين يبحثان في جماد، والغيبي والمادي متعلقان بكائن حيّ.
.
وما هو محل الحظ في هذا الأمر؟
حين قال تعالى «وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم» فإحدى التوجيهات هي أن الله سبحانه وتعالى أعطى لصاحبه خير الدنيا، واستغله صاحبه للحصول على خير الآخرة فكان مثالاً خيّرًا، وهذا هو المحظوظ. بينما خسر الآخر ذلك، وأضحى مثالاً للخسة والدناءة بسبب ضعف مطلوبيته، وسوء قرارته.
فالحظ ليس مخلوقًا خرافيًا يعمل بلا أسباب، إنما هو «تمامية الأسباب».
.
هل لك أن توضح؟
حين ذكرت الحديث سابقًا عن جنود العقل والجهل[5] أردت أن أُوصل نقطة مهمة، وهي أن التخلص من جنود الجهل يؤدي إلى «الدرجات العُليا» التي خلدت الأنبياء والأوصياء، بينما التمسك بها يؤدي إلى النزول في دركات السوء، ومن يعتقد أنه بممارساته الدنيئة، وتمريره ذلك تحت غطاء من الشعارات البراقة هو فوز فهو قطعًا مخطئ.
.
عفوًا، ولكن بماذا تفسر نجاحه في الحصول على ما فشل به الآخرون الخيّرون؟
أفسره بأنه لم يستوعب أن نجاحه لا يعود إلى ما قام به فقط بل يعود إلى أنه يؤدي دورًا لا يشعر به، فهو قطعة شطرنج بحماقته يشكل جزءًا من سجل البشرية المملوء بالحماقات التي تدفع في النهاية إلى البحث عن النظام الأمثل الذي يمنع أمثال هؤلاء من الاستمرار في طغيانهم.
إن النجاح الحقيقي، والتوفيق الواقعي هو الذي يجعل صاحبه علامة فارقة، وكلما تمسك بجنود العقل وصل لها من باب «عبدي أطعني تكن مثلي..»
.
وما علاقة آية «إنك لن تخرق الأرض ..» بالموضوع؟
علاقتها غاية في الأهمية، فهي توضح أن الإنسان بذاته ضعيف جدًا وليس باستطاعته تحقيق شيء دون الطول الغيبي، وهو له طريقين: الأول، أن تكون خيّرًا في الحقيقة، والثاني، أن تكون سيئًا .. وكما أثبتها سجل البشر فإن العاقبة للمتقين.
حين نرى مجسمًا للكرة الأرضية، نشاهد خطوطًا طولية وأخرى عرضية تغطي جميع المناطق، بحيث لو أردنا الوصول لمنطقة ما فإن مطابقة رقم خط الطول مع رقم خط العرض سيوصلنا لها. الطول والعرض اللذان أتحدث عنهما هنا، مشتركان في اللفظ ومتشابهان في العمل الذي هو الوصول إلى الغاية، لكن يختلفان بالمعنى.
.
فما معناهما إذًا؟
يحمل العرفانيون معنى (العرض) على المعيّة، ومعنى (الطول) على التقدم[1]، وإذا أضفنا الصفة اللاحقة لكل منهما سيصبح معنى (الطول الغيبي) بأنه الإمداد، أو التأييد، أو المشيئة الإلهية، ومعنى (العرض المادي) بأنه كل ما يختص بأفعال، وسلوكيات، وأعمال، ودوافع الإنسان وبواعثه.
.
هلاّ فصّلت في العرض المادي؟
برأيي، العرض المادي هو كل المجهود الذي ينبثق من الإنسان في سبيل الوصول، أو تحقيق، غاية ما، بما في ذلك متعلقات هذا الوصول كرغباته، أمنياته، طبائعه، صفاته، ولأنها ترتبط به جميعها، فهي محمولة (مع بعضها البعض) ضمن ما يشكل ماديته، أي وجوده المحسوس، ولذا أطلق على العرض بأنه المعية، أي ما يحمل معه جميع ما يشكل الوجود المادي للإنسان.
.
وما هو الطول الغيبي؟
تكاد تتفق جميع الفلسفات الروحانية والأخلاقية والدينية، طبعًا باستثناء الحسية والتجريبية، على أنّ هذا العالم تشكل جميع الموجودات فيه نظامًا متلائمًا ومتسلسلاً، بحيث لو تأثرت احدى قطع هذه السلسلة، فإن الإختلال سيكون من نصيب العالم ككل، ومنها انبثقت نظرية تأثير الفراشة[2].
هذا التناغم في العالم، يدفع إلى الإيمان بمفهوم الغيب، ما سمّاه كانط بـ«الخطة السرية» التي تقود البشرية رغمًا عنها، ولأنه يعني التقدم فهو يأتي بمعنى الإمداد، أو المشيئة الإلهية في تتويج الفعل المادي لتحقيق ما يصبو إليه لحكمة ما، ومقتضى هذه الحكمة وإن كان يظهر بأنه داعم لـ اللا أخلاقيات، إلا أنه يقود في النهاية لنتيجة أخرى.
.
كيف ذلك؟
في رؤيته للتاريخ، يرى كانط، أن «الطبيعة» قد وضعت قابليّات معينة في البشر وضمنت تحقيق تلك القابليات عن طريق تلك الميول التي يراها بالمجمل تنافسية لا اجتماعية، ولا اخلاقية[3].
.
وما الهدف من ذلك؟
الهدف من ذلك، كما يراه، هو منع الجمود عن المجتمع البشري من خلال الصراع، الذي يؤدي بدوره إلى تحقيق المسيرة التاريخية في تطور البشرية حتى الوصول إلى العالم الأخلاقي التام.
.
هل من مزيد من التفصيل؟
يمكن أن يُقال، بكلمات أخرى، أنّ الإنسان الخيّر بكل كيانه المادي، والشرير بكيانه المادي يلعبان دورًا مهمًا في التنافس والصراع[4]، لنصل إلى نتيجة محققة وهي أن الخير دائمًا ينتصر، وإذا استمرت مسيرة البشرية في تأكيد هذه الحقيقة فإن المساوئ تقل حقبة بعد أخرى، حتى نصل إلى العالم المثالي، العالم الموعود في «نهاية الزمان». فوجود الخير مساوق لوجود الشر وذلك لتأكيد حقيقة أن معرفتنا بالشر تؤدي بالضرورة إلى المعرفة بالخير.
.
وهل هذا يبرر وصول من تصفهم باللصوص إلى مثل هذه المراتب؟
عِبر التاريخ كثيرة، وأكثر من أن تحصى في بيان مصير الطغاة، وموقف البشرية منهم، وأن كل ما يحوزونه يتحول في النهاية إلى لعنات تلاحقهم تجبر البشرية على تفادي وجودهم مستقبلاً.
هؤلاء، اللصوص أو ما شئت فسمّهم، يعتقدون أنهم يسيرون بمقتضى خطة وضعوها، بينما هم الحقيقة كما في التراث الهندوسي: دمى تحركها «الطبيعة» لتحقيق خطة وضعتها.
.
هل لك أن تلخص بعد هذا، علاقة الطول الغيبي بالعرض المادي؟
باختصار مخلٍّ أستطيع القول: أن الطول الغيبي والعرض المادي مثل خطوط الطول والعرض على الخرائط، متى ما إلتقيا في نقطة أعطانا إحداثيات، استطعنا الإستدلال للنقطة من خلالها وإيجادها، إنما الهدف هنا ليس «مكانًا» بل «قيمة بشرية» مما يضفي عمقًا إضافيًا هو:الغاية.
بمعنى أن من له قابلية أن يشكل «قيمة لا أخلاقية» بأفعاله يتم إمداده ليستمر في طغيانه ليشكل طرفًا مضادًا لمن يمثل «القيمة الأخلاقية». فالوجود الشرير إلتقى فيه الخطان فأوجداه، والوجود الخيّر نفس الأمر، إنما الغاية من كل منهما تختلف، فالطول والعرض العاديين يبحثان في جماد، والغيبي والمادي متعلقان بكائن حيّ.
.
وما هو محل الحظ في هذا الأمر؟
حين قال تعالى «وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم» فإحدى التوجيهات هي أن الله سبحانه وتعالى أعطى لصاحبه خير الدنيا، واستغله صاحبه للحصول على خير الآخرة فكان مثالاً خيّرًا، وهذا هو المحظوظ. بينما خسر الآخر ذلك، وأضحى مثالاً للخسة والدناءة بسبب ضعف مطلوبيته، وسوء قرارته.
فالحظ ليس مخلوقًا خرافيًا يعمل بلا أسباب، إنما هو «تمامية الأسباب».
.
هل لك أن توضح؟
حين ذكرت الحديث سابقًا عن جنود العقل والجهل[5] أردت أن أُوصل نقطة مهمة، وهي أن التخلص من جنود الجهل يؤدي إلى «الدرجات العُليا» التي خلدت الأنبياء والأوصياء، بينما التمسك بها يؤدي إلى النزول في دركات السوء، ومن يعتقد أنه بممارساته الدنيئة، وتمريره ذلك تحت غطاء من الشعارات البراقة هو فوز فهو قطعًا مخطئ.
.
عفوًا، ولكن بماذا تفسر نجاحه في الحصول على ما فشل به الآخرون الخيّرون؟
أفسره بأنه لم يستوعب أن نجاحه لا يعود إلى ما قام به فقط بل يعود إلى أنه يؤدي دورًا لا يشعر به، فهو قطعة شطرنج بحماقته يشكل جزءًا من سجل البشرية المملوء بالحماقات التي تدفع في النهاية إلى البحث عن النظام الأمثل الذي يمنع أمثال هؤلاء من الاستمرار في طغيانهم.
إن النجاح الحقيقي، والتوفيق الواقعي هو الذي يجعل صاحبه علامة فارقة، وكلما تمسك بجنود العقل وصل لها من باب «عبدي أطعني تكن مثلي..»
.
وما علاقة آية «إنك لن تخرق الأرض ..» بالموضوع؟
علاقتها غاية في الأهمية، فهي توضح أن الإنسان بذاته ضعيف جدًا وليس باستطاعته تحقيق شيء دون الطول الغيبي، وهو له طريقين: الأول، أن تكون خيّرًا في الحقيقة، والثاني، أن تكون سيئًا .. وكما أثبتها سجل البشر فإن العاقبة للمتقين.
.....
كلمة أخيرة:
عدة سنوات الآن، وأنا أطلع على كلمات وآراء وأقوال الكثير من الفلاسفة والعلماء ومعظم نظرياتهم كما هي آراء كانط أعلاه، أرى لها وجودًا واضحًا في الروايات والحقائق القرآنية، وقد توصلت ببحث قاصر وبجهد ضعيف متواضع إلى الكثير من التطابقات التي تثبت عظم بضاعة ما لقيت، وضعف بضاعة أولئك، ولكن يحز في نفسي أن أرى التعظيم لآراء كانط، وحين اذكر رواية للإمام الصادق عليه السلام أعمق منها فكرًا وأفضل قولاً تتقاذفني أمواج الإتهامات!
فتأمل رعاك الله، بهذه المفارقة، وفي النفس أكثر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
________________
[1] من الخلق إلى الحق، ص68.
[2] Butterfly effect لـ Philip Merilees
[3] أوراق في علم التأريخ، ص126.
[4] «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»قرآن كريم
[5] راجع: إنك لن تخرق الأرض.