6 نوفمبر 2010

رؤى ربع قرن


«منذ خمس وعشرين سنة خطتني يد الزمان كلمة في كتاب هذا العالم الغريب الهائل. وها أنا ذا كلمة مبهمة، ملتبسة المعاني، ترمز تارة إلى لا شيء، وطورًا إلى أشياء كثيرة»*

***

يحزن الناس حين ينقص شيءٌ مما يملكون.

ويعتبرون يوم الفقد هذا، يوم حزن ذي شجون.

ولكنّي – وياللعجب – أراهم يفرحون،

حين تنقص من أعمارهم، سنةٌ ممّا

يعدّون!

***

زميلي في العمل قصير، صلعته دخلت في سباق تسارع مع كرشته، كلماته أقرب للهمس، يحب الجلوس متكورًا على نفسه. قرر يوم الخميس البدأ في الشكوى من مسؤولياته الأسرية، ومتطلبات زوجته وأولاده، وهي اسطوانة مللت من سماعها منه يوميًا، فقررت أن أقطع الشريط من بدايته بالحكم الفصل من لسان المعري:

تعبٌ كلها الحياة فمـا .. عجبي إلا من راغبٍ في ازدياد.

انسحبت شكواه لداخل حلقه، وبلع باقي كلماته وهو يمسح صلعته بأصابعه القصيرة المنتفخة، لينظر لي قائلاً: هوّه إنتَ تصوفت ولا إيه؟

لا أعلم.

لكنّي أرى تساؤل الفأر الحكيم جديرٌ بالبحث عن إجابة: ما هي فائدة معرفتك أمورًا عن التصوف، إن لم تصل أنت إلى مرتبة الكمال والوصال، وتنكشف أمامك الحجب؟**

***

أصبحت الحياة بالنسبة لي كفيلم، تشاهده للمرة العاشرة. مشاهدٌ تعيد نفسها، مناسبة لتضييع الوقت حتى تصل إلى النهاية: نهاية الفيلم، أو نهاية انتظارك.

تحوّل كل شيء إلى مشهد مكرر، تولد وتكبر وتموت وأنت تعيش في نفس الحلقة التي عاش فيها والداك، وسيعيش فيها أبناؤك، وأحفادك. شاهدت برنامجًا لـ نبي الملحدين ريتشارد داوكينز، قلت لنفسي لعلّه يقدم اكسير العلاج لهذا الأمر، فيما يدعيه من علم، لكنه كان يكذب عليّ وعلى نفسه بقوله: يكفي للإحساس بالسعادة –وسط هذه الأمواج المتلاطمة من التعاسة- أننا أحفاد الأقوياء الذين نجوا!

هل تكون سعادة الحياة باستعارة انتصارات الماضين؟

وهل يحق لنا الشعور بالسعادة، لأن جدًا من جدودنا كان قويًا واستطاع أن يتغلب على الشمبانزي؟

برأيي، وحدهم العاجزين عن خلق الانتصار، والشاعرين بالضعف، يعتقدون ذلك.

***

أجد نفسي اليوم واقفًا على مفترق الطرق، أنبش فيها بحثًا عن مستقبل، ولا أرى سوى الماضي!

وعلى أنغام أبيات الخيّام:

ﭽون حاصل آدمي در اين شورستان .. جز خوردن غصه نيست تا كندن جان

خرّم دل آنكه زين جهان زود برفت .. وآسوده كسي كه خود نيامد به جهان ***

تبدو الحياة وكأنها لا تملك جديدًا!

بل هي بابٍ في بطن باب حتى أسأمتني الأبواب المغلقة، كلما فتحت بابًا وجدتُ آخر، فقررت الاكتفاء بالنظر من خلال النافذة.

أراقب الناس وأنبهر من تصرفاتهم وشغفهم المبالغ به تجاه الحياة، وصراعهم الذين يحول كل شيء إلى وقود يحرق لأجلها: أوقاتهم، أفكارهم، أنفاسهم، وأبناءهم، صحتهم وسقمهم، أحلامهم وآمالهم. من المفترض أن ينتهي الشغف بمرور الوقت، فهو مثل الحزن يولد كبيرًا ويتلاشى مبقيًا الذكريات تسبح في الوجدان.

إلا أنني أرى شغف الحياة، يولد كبيرًا ولا يموت.. والناس يموتون.

***

حاول "سارتر" أن يستعجل الجحيم، فقرر أنه في الأرض، وأن الجحيم بعينه هو وجود الإنسان مع الآخر، وهذا هو العقاب الأبدي!

هكذا يهرب هؤلاء ممّا وراء الموت. بوصفهم الحياة على أنها شغبٌ، وعبث، وهربٌ، ولهثٌ.

فهل هناك جحيم أكبر من كون «الحياة كلها ألم ومشاق لا تتخلص منها ما دامت الروح في بدنك؟»****

لكن لا يخبرون النّاس أنّ هذه الأشياء هي وليدة طمعهم في الحياة، وليست طبيعة الحياة.

فهل يتذمر من النقص، إلا الذي يشعر به؟

لذا أراهم، يزّهدون الناس بحياة، على قدر تذمرهم منها، يتشبثون بها!

***

- ماذا تقرأ؟

- كل شيء

-اممم .. لماذا؟

-لأنجح في الإختبار

- أي اختبار؟

- اختبار الحياة!

- الحياة تختبرك بالعراك، فهي معركة، حرب، مصارعة المهم أنّها قتال وسعي مستمر.

- هكذا تراها أنت!

- وأنت، كيف تراها؟

- أراها كسؤال متعدد الاختيارات في اختبار مدرسي: إجابات متعددة، و واحدة صحيحة.

الإعتماد على الحظ، أو العضل، أو الغش لا يفيد في الوصول إليها.

والخطأ في اختيار الإجابة لا يتحمله واضع السؤال، بل أنا.

لذلك أقرأ، صحيح أنني أسلب بالقراءة متعة الإكتشاف،

ولكنّي أفضل اختيار الإجابة الصحيحة بلا متعة، على أنّ أعيش إثارة الكفاح في الجهة الخاطئة!

***

قبل أن أضع رأسي على المخدة، أعدت تشغيل ساعة المنبه في الهاتف.

تذكرت أن رسالة وصلتني ولم أقرأها، فتحتها..

وبعد 8 ساعات كنت أتفق مع مرسلها على مرافقته للحج.

رحلة فجائية، أرى أنها إشارة  لإعادة اكتشاف 'شغف الحياة'

فالرتابة فيها كالذبابة .. لا يقتلها إلا صفعة مفاجئة!
________________________

*جبران خليل جبران، يوم مولدي، من كتاب (دمعة وابتسامة).

**عن "التدين والنفاق بلسان القط والفأر" للعلامة البهائي (رحمه الله).

*** من رباعيّات عمر الخيام، ومعناها:

لا يحصد المرء من هذه الأرض الملحية إلا الغصص.

فهو حليف الغصة حتى تفارق روحه بدنه. فالسعيد من يرحل عن هذه الدنيا بسرعة، وأسعد منه من لم يولد فيها أبدًا!

*** جملة مقطتفة من نصّ لـ شوبنهاور.

17 أكتوبر 2010

كتاب الخرفان


أرسل الشتاء نسماته لتستطلع سكنه في الشهور القادمة.

لملمَ الربيع متاعه ورحل متعلقًا بأذيال أسراب العزاء التي نظمتها الطيور

واختلط نشيجها بصوت صفير الرياح الباردة الآتية من بعيد، التي

قدمت هذا العام متثاقلة الخطى لتخنق حرارة الشمس مبكرًا بردائها.

وأُجبرت الأرض على الشحوب، فأسقطت الأشجار أوراقها على خديها

حزنًا حتى انحسر الغطاء عن رأسها.

***

محتارًا، انتصب أمام النافذة، يشاهد بعينه الحمراء الجدب يرخي سدوله حوله.

وصوت الجوع يقترب بألحانه الكئيبة من غنمه.

- لم يعد هناك ما يكفي.

مشى قليلاً، ثم جلس على الأرض، وضع يديه على رأسه، ودسهم بقبر أعده بين ركبتيه وهو يسترجي الظلام أن يطرق الباب ليدخل ويعميه عن رؤية ما يخشاه. بعد دقائق، بُعثت فيه الروح، رفع بصره، نظر يمنة ويسرة ..

أنارت بقايا النجوم ظلاً يقف بهدوء في الزاوية البعيدة، تهللت نفسه: وجدتها!

***

مضى الأسبوع الأول، تبعه الثاني، وأتى الثالث.

ومعه بدأت الغنمات تسمن أكثر فأكثر مبشرة بربح وفير هذا العيد,

- رائع! قال وهو يترقبهم.

أكمل: أخيرا .. هناك فائدة من هذه التركة الثقيلة.

***

في بداية الأسبوع الرابع، قررت السماء أن تبكي.

فتح الباب المحشور في الزاوية، مد يده داخل البطن الذي خوى،

بحث كثيرًا هذه المرة حتى وجد شيئًا أخرجه منه، وخرج.

على وقع ارتطام دموع السماء بوجنات الأرض،مزّق الصفحات، ومع كل صفحة يصمت طيرٌ من الشادين في الخارج. بقيت الصفحة الأخيرة مزقها وهي تئنّ مع صوت الرعد: الصوت الوحيد الذي نجا من مصيدة المطر.

انتهى .. فتوج المأدبة اليومية لأغنامه بها!
***

آثر أن يبقي مع الغنمات يؤنسها بطعامها، ويتسامر معها، يربت على ظهورها، ويتأمل الأحلام التي رفع ظلام الزريبة ستارتها، ريثما تهدء فورة الحزن السماوي التي حبسته بين أطباقها.

و حيث بقي بين غنماته، يسافر من حلم إلى آخر بعقله، وينتقل من غنمة إلى أخرى برجله، تعثر بغلاف الكتاب الذي مزق صفحاته،قام يشتم، ويصرخ هذا الحظ السيء، وهو ينفض الغبار من ملابسه أنار البرق لحظتها الدهماء حوله ..

فكشف عن عنوان الكتاب، وكان: «الأدمغة الفارغة»*


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الأدمغة الفارغة اسم لكتاب حقيقي، مؤلفه هو جرجي كنعان، وهو بالمناسبة غير مجاز من الرقابة في معرض الكتاب!

1 أكتوبر 2010

حساسية: حوار

- في بداية البالتوك كنت أدخل غرف المسيح والملحدين وأسمعهم يسبون الله والنبي وما اتحمل اطلع منها وأنا جسمي تحوشه قشعريره، موشي سهل انك تسمع مقدساتك تنهان جدامك.

بعدها قمت ادخل واسمع وابحث عن ردود .. بعدها لا، قمت ادخل وشارك .. والحين صار عندي قبول إن هذي هي الدنيا لابد وأن يكون فيها مثل هالناس

- طبيعة المماحكة إنها تزيل الحساسية، كل شي في بدايته يكون صادم ومع الأيام يتم التعود عليه وبعدين يتحول إلى جزء من بيئته ثم بعدها يصير مكوّن أساسي من مكوناتها.. ويصير مثل ما يقول "كويلو" واقع تم ايجاده للعيش وفقه!

وإذا ما قدر يكسر دائرته الإنسان، راح يظل في مكانه ..

- شوف أنا قاعد افهم اللي قاعد يصير الحين بناء على رؤية (هيغل) .. التطور يحدث نتيجة لطرح فكرة، هذي الفكرة تحمل في ذاتها نقيضها، ويستغل الآخرين هذا النقيض في طرح فكرة مستولدة منها لكن محسنة .. وجذي تبدي مسيرة التطور .. فكرة لها جوانب سيئة وجوانب حسنة .. مع الزمن تاخذ الاجيال القادمة الحسن منها وتهذبه وتطرح السيء وترميه

- يعني نوعٌ ما من (التحدي والاستجابة)  .. المثقفون أو من يفترض انهم مثقفين يتولون مهمة طرح الأفكار كتحديات ويستجيب لها المجتمع وبحسب درجة الاستجابة يتطور .. لكن السؤال هو: هل مجتمعنا قادر على الاستجابة؟

- عوام الناس ما عليهم حرج فطبيعة العوام إنهم مثل ما قال الإمام علي عليه السلام: همج رعاع ينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح .. فدورهم هو دور التابع لا المتبوع .. فجواب السؤال يكون بسؤال وهو هل يوجد مثقفين؟

أقدر أقول إنه للأسف : لا يوجد. من أهم مسؤوليات المثقف إنه يختصر المراحل التاريخية لمجتمعه لايصاله لآخر مراحل التطور لكن اللي قاعد يصير عندنا هو سحبهم للخلف .. في إحياء طبائع وصفات المفروض إنها تندثر ..

- مو مشكلة، بهالكلام تُثبت الأصل وهو أنّ هناك مثقفين لكنهم مثقفين سلبيين .. ما عندهم القدرة على الاستفادة من التاريخ للمدى البعيد لكنهم يملكون القدرة على الاستفادة من طبيعة المجتمع الفكرية للاستفادة الآنية

- شلون يعني؟

- طبيعة المجتمع عندنا انه للأسف يتفاخر بأشياء مو من انجازاته، قرأت مرة مثال لطيف وهو إن الشخص عندنا يركب سيارة بأحدث موديل كأنه هو مخترعها وصانعها بينما حتى الفأر لو جمع فلوسها يقدر يشتريها! هذا المثال يبين إن المجتمع قاعد يغرق نفسه في أشياء مستوردة ويتعامل معاها تعامل سطحي جدا، ولهالسبب صارت مثل هالقضايا منجم ذهب للمتكسبين لانهم بتحفيزهم وتجييشهم للناس يوحون لهم بأنهم هم أصحاب (القرار) والربحانين بينما يسرق هذيل قرارهم بدون ما يحسون..

- ذكرتني بقضية تكلم عنها (...) لما صارت سالفة الرسوم الدنماركية وهو كيف تم تجييش هذي الشعوب كلها في حملة عالمية ضد جريدة ورسام مغمور وفي نفس الوقت أبشع من هذي الرسوم موجود عندنا وفي العالم ويبث حتى الفضائيات وما صار هيجان مثل اللي كان .. هالشي رجعني لكلام مالك بن نبي لما كان يشرح كيف أن الاستعمار كان يصنع رجال وطنيين – وهم بالواقع كذلك – لكنهم من حيث انهم يعتقدون انهم يحاربون الاستعمار فهم يخدمونه بدون ما يحسون

مثل سالفة الدب اللي اراد انقاذ صاحبه من الذباب فهشم وجهه بصخرة

- ممكن .. ليش لأ؟ بس واضح إن اللي قاعد يصير له مسارين الاول واضح جدا وهو استغلال الوضع لتحقيق اكبر قدر من المكتسبات وللي الذراع وإعلاء الصوت .. والمسار الثاني هو (القوة/ اليد الخفية) بحسب مفهوم آدم سميث .. القوة اللي تخليهم يعيشون حالة (الدب) وبالتالي يساهمون في إزالة الحساسية من هالمواضيع من حيث إنهم يبون يزيدون هالحساسية .. مثل ما صارت سالفة الرسومات حاليا تمر مرور الكرام ومثل ما صار مع الملحدين بأن لهم وجود فعلي يمكن يكون مضحك .. لكن هذي الدنيا صندوق يجمع المتناقضات .. وعلينا تقبلها

- أنا اشوف هاللحظات لحظات تاريخية بمعنى الكلمة .. كانط يقول بأن التاريخ هو سجل لحماقات البشر .. من يكتب التاريخ أو يصنعه غير ثلاثة إما عبقري أو مجنون أو أحمق وهو الغالب؟

مع كل هالحماقات فاحنا نستفيد من التاريخ لانه لولا حماقات التنافس والغرور أو المصادمة وغيرها لصار عندنا جمود وسقف الحرية بحاجة لمثل هالاشياء لرفعه

- يعني إنّ اللي قاعد يصير أو صار هو بمثابة (حتمية تاريخية) .. وجهة يفرضها علينا التاريخ لازم تكون موجودة أو توجد .. وابن خلدون يقول بأن الحوادث التاريخية تجري مجرى الظواهر الطبيعية لا يمكن لنا السيطرة عليها!.. وأكبر دليل هو إن الصوت الواعي في ظل هالصياح يتم اخماده أو اهماله .. كعادة التاريخ!

- أو تقدر تقول (ضرورة تاريخية)، شوف برجع مرة ثانية لسالفة الرسوم الدنماركية كان واضح انها متاجرة باسم الرسول –صلى الله عليه وآله- من قِبل كيانات أو أشخاص والناس كعادتهم اتبعوا الصيحة وركبوا الموجة .. كانت حالة انفعالية من عامة الناس و واضح جدا انها حالة مدعومة ومستغلة من قِبل أطراف ..

- جذي نرجع للمربع الأول: مشاكلنا مستوردة ومصطنعة ... بمعنى إنها بأغلبها قضايا وأمور تمر علينا يوميا مرور الكرام .. لكنها فجأة تتحول لقضية الشارع بدون مسوّغ منطقي ..

- طالما إن العامة هم اللي بإيدهم القرار فمثل هالشي غير مستغرب، إذا كان في الماضي هناك (نخب) تقود الشارع بفكرها فالحين هناك (نخب) يقودها شارع مستثار بشرارة يُطلقها أي طموح لمنصب (نخبوي) ..والشارع مثل الفرس الجامح تستثيره بسهولة وتستفيد من طاقته لكنك ما تضمن لأي درجة يمكنك السيطرة عليه

* * * * *
المكتوب هو أجزاء مقتطعة من حوارات مختلفة مع صديقي العزيز ، بعضها كُتب كما هو، وبعضها كُتب بتصرف بسيط، وهناك الكثير ممّا لم يُكتب.

9 سبتمبر 2010

مرحبا، هل تعرفني؟

مرحبا


هل تعرفني؟ أنا أعرفك جيدا ..
أعتذر عن الإزعاج، اعلم أنني كثير الشكوى ومزعج جدا ولكن ماذا أفعل؟

 زياراتي قليلة، وغيباتي طويلة .. وغصاتي كثيرة


أحمل في داخلي همومًا أثقل من وزني.. ولا يوجد من يستمع لي ..


صدقوني لا أريد أن آخذ أفراحكم وأبدلها بأشجاني .. لا ..


ولكني أتساءل لماذا كلهم يطلبونني .. وحين أحضر


لا أرى سوى ظهورهم!


لماذا يلاطفوني ثم يمتطون ظهري؟


خذ مثلاً هذه المرة، أتيت بموعدي المعتاد ولم أجد من يستقبلني بما أستحق!


وكأنني كابوس أتى على نائمٍ بعد عشاءٍ دسم.


يحثونني على القدوم، فأقطع راحتي .. وأضطر إلى نكث نُذر الصمت التي أمارسها ..


وأحضر وبدلا من أن يفرحوا .. يجعلوني شاهدًا على خلافاتهم!


ومادة لنزاعاتهم!


هل من مصيبة أكبر من أن تجد نفسك متداولاً على الألسن ومتمزقًا بالمعارك

ولا تستطيع أن تدافع عن نفسك ولو بكلمة؟


كم أكره الشعور بالعجز والإهمال .. أقف في الوسط ألتفت يمنة ويسرة ..


وأتساءل عن طريقة أدفن نفسي فيها في مقبرة الزمن حتى اتخلص من تذمرهم..


أحيانًا أشك بوجودي، لا أعلم هل أنا حقيقي أم مجرد طيف ..


ما يحدث أمامي لا يشعرني بأنني واقعي ولكن حين أسمعهم يقولون اسمي


أنتبه لنفسي ..


فالناس لا ينادون ما هو غير موجود..


ولكنهم على استعداد لـ"تطنيشه" حين يوجد!


عندما أرى الأطفال يبتسمون حين أطرق الأبواب يحدوني شعور بالأمل بأنني لا زلت كما كنت ..


مصنعًا للذكريات..


أهرع لمقابلة الكبار لأرى هل لا زالوا على عهدهم بي؟


أصطدم بتعابير وجوههم .. يشيحون بوجوههم ... ويصافحونني بتثاقل..


لا أعلم لماذا يحاولون التخلص مني بأي طريقة؟


كل الأعذار تجد لها سوقًا اليوم،


هذا ينام، وذاك يسافر، وذا يبحث عن أوقات عملٍ إضافية.. كلهم يعلمون بقدومي!


ورغم ذلك يتجاهلونني .. وباسمي الذي يتأففون حين يذكرونه .. يفعلون كل الشرور..

وكأن مقدمي هو ربيع الأباليس.


صحيح أن الحياة تمضي .. وأن التجاهل في بعض الأحيان مجدي ..


ولكن السكوت مؤلم ..


انظر لهؤلاء .. يجلسون معي على مائدة واحدة


صافحتهم واحدًا واحدًا .. مروّا عليّ وهم غافلون..


رؤيتهم تُفرح قلبي .. ولا يروني ..فأعينهم تحولت لسرب من الطيور..


يتقافز من مكان ٍلآخر .. هذا يشتكي من قدومي مبكرًا..


وهذا يبكي على جيوبه التي فرغت..


والآخر يتألم لأنه اضطر للجلوس وسط العقارب..


وتلك المسكينة – التي تحرق نفسها - لا تشكر الخبزة التي بين أيديها ..


بل تشكو الحليَّ التي لم ترتديها!


اليوم، زرت المقبرة.. سأقول لك لماذا؟


لأن الموتى أفضل مستمعين.. صدورهم رحبة لكل شيء.. ولا يتذمرون


يلفهم الصمت .. صمت لا تسمع فيه شيء.. أغبطهم عليه ..


الحكمة التي يوصلونها دون كلمات .. تطهرني بعظمتها..

كيف يتحول هؤلاء الصامتون إلى أفضل وعاظ؟ وصمتهم لأفضل موعظة؟



اليوم تعلمت منهم أنّ المَنح فرحة .. والعطاء سعادة.. وأن الحياة شوقًا ..

أفضل من الموت تذمرًا ومللا..


أعلم أن بأعماق الناس فرحًا لحضوري

 حتى وإن تظاهروا بالعكس

رغباتهم المزدوجة لوثتهم..


رغبتهم بالشعور بالفرح ..

ورغبتهم باستغلالي لمصالحهم ..


لا يهم .. من يتعود على العطاء .. لا يلتفت للرغبة.


من يبسط يده، لا يشعر بألم قبضها ..

ذكرياتهم معي قبل أن يتلوثوا تكفي..


كالعادة .. أعلم بأني  فشلت في ايصال مأساتي ..


كما فشل القمر بايصال وحدته ..


فالشعور بالجمال .. يسلب منّا الكلمات ..

وأنجح القضايا دائمًا يترافع عنها أفشل محام ..


تأخرت، سأذهب الآن .. اعتذر عن ازعاجي مجددًا ..


أووه، نسيت .. أن أعرفك باسمي قبل أن أذهب ..



 اسمي : عـيـد سعـيد