«منذ خمس وعشرين سنة خطتني يد الزمان كلمة في كتاب هذا العالم الغريب الهائل. وها أنا ذا كلمة مبهمة، ملتبسة المعاني، ترمز تارة إلى لا شيء، وطورًا إلى أشياء كثيرة»*
***
يحزن الناس حين ينقص شيءٌ مما يملكون.
ويعتبرون يوم الفقد هذا، يوم حزن ذي شجون.
ولكنّي – وياللعجب – أراهم يفرحون،
حين تنقص من أعمارهم، سنةٌ ممّا
يعدّون!
***
زميلي في العمل قصير، صلعته دخلت في سباق تسارع مع كرشته، كلماته أقرب للهمس، يحب الجلوس متكورًا على نفسه. قرر يوم الخميس البدأ في الشكوى من مسؤولياته الأسرية، ومتطلبات زوجته وأولاده، وهي اسطوانة مللت من سماعها منه يوميًا، فقررت أن أقطع الشريط من بدايته بالحكم الفصل من لسان المعري:
تعبٌ كلها الحياة فمـا .. عجبي إلا من راغبٍ في ازدياد.
انسحبت شكواه لداخل حلقه، وبلع باقي كلماته وهو يمسح صلعته بأصابعه القصيرة المنتفخة، لينظر لي قائلاً: هوّه إنتَ تصوفت ولا إيه؟
لا أعلم.
لكنّي أرى تساؤل الفأر الحكيم جديرٌ بالبحث عن إجابة: ما هي فائدة معرفتك أمورًا عن التصوف، إن لم تصل أنت إلى مرتبة الكمال والوصال، وتنكشف أمامك الحجب؟**
***
أصبحت الحياة بالنسبة لي كفيلم، تشاهده للمرة العاشرة. مشاهدٌ تعيد نفسها، مناسبة لتضييع الوقت حتى تصل إلى النهاية: نهاية الفيلم، أو نهاية انتظارك.
تحوّل كل شيء إلى مشهد مكرر، تولد وتكبر وتموت وأنت تعيش في نفس الحلقة التي عاش فيها والداك، وسيعيش فيها أبناؤك، وأحفادك. شاهدت برنامجًا لـ نبي الملحدين ريتشارد داوكينز، قلت لنفسي لعلّه يقدم اكسير العلاج لهذا الأمر، فيما يدعيه من علم، لكنه كان يكذب عليّ وعلى نفسه بقوله: يكفي للإحساس بالسعادة –وسط هذه الأمواج المتلاطمة من التعاسة- أننا أحفاد الأقوياء الذين نجوا!
هل تكون سعادة الحياة باستعارة انتصارات الماضين؟
وهل يحق لنا الشعور بالسعادة، لأن جدًا من جدودنا كان قويًا واستطاع أن يتغلب على الشمبانزي؟
برأيي، وحدهم العاجزين عن خلق الانتصار، والشاعرين بالضعف، يعتقدون ذلك.
***
أجد نفسي اليوم واقفًا على مفترق الطرق، أنبش فيها بحثًا عن مستقبل، ولا أرى سوى الماضي!
وعلى أنغام أبيات الخيّام:
ﭽون حاصل آدمي در اين شورستان .. جز خوردن غصه نيست تا كندن جان
خرّم دل آنكه زين جهان زود برفت .. وآسوده كسي كه خود نيامد به جهان ***
تبدو الحياة وكأنها لا تملك جديدًا!
بل هي بابٍ في بطن باب حتى أسأمتني الأبواب المغلقة، كلما فتحت بابًا وجدتُ آخر، فقررت الاكتفاء بالنظر من خلال النافذة.
أراقب الناس وأنبهر من تصرفاتهم وشغفهم المبالغ به تجاه الحياة، وصراعهم الذين يحول كل شيء إلى وقود يحرق لأجلها: أوقاتهم، أفكارهم، أنفاسهم، وأبناءهم، صحتهم وسقمهم، أحلامهم وآمالهم. من المفترض أن ينتهي الشغف بمرور الوقت، فهو مثل الحزن يولد كبيرًا ويتلاشى مبقيًا الذكريات تسبح في الوجدان.
إلا أنني أرى شغف الحياة، يولد كبيرًا ولا يموت.. والناس يموتون.
***
حاول "سارتر" أن يستعجل الجحيم، فقرر أنه في الأرض، وأن الجحيم بعينه هو وجود الإنسان مع الآخر، وهذا هو العقاب الأبدي!
هكذا يهرب هؤلاء ممّا وراء الموت. بوصفهم الحياة على أنها شغبٌ، وعبث، وهربٌ، ولهثٌ.
فهل هناك جحيم أكبر من كون «الحياة كلها ألم ومشاق لا تتخلص منها ما دامت الروح في بدنك؟»****
لكن لا يخبرون النّاس أنّ هذه الأشياء هي وليدة طمعهم في الحياة، وليست طبيعة الحياة.
فهل يتذمر من النقص، إلا الذي يشعر به؟
لذا أراهم، يزّهدون الناس بحياة، على قدر تذمرهم منها، يتشبثون بها!
***
- ماذا تقرأ؟
- كل شيء
-اممم .. لماذا؟
-لأنجح في الإختبار
- أي اختبار؟
- اختبار الحياة!
- الحياة تختبرك بالعراك، فهي معركة، حرب، مصارعة المهم أنّها قتال وسعي مستمر.
- هكذا تراها أنت!
- وأنت، كيف تراها؟
- أراها كسؤال متعدد الاختيارات في اختبار مدرسي: إجابات متعددة، و واحدة صحيحة.
الإعتماد على الحظ، أو العضل، أو الغش لا يفيد في الوصول إليها.
والخطأ في اختيار الإجابة لا يتحمله واضع السؤال، بل أنا.
لذلك أقرأ، صحيح أنني أسلب بالقراءة متعة الإكتشاف،
ولكنّي أفضل اختيار الإجابة الصحيحة بلا متعة، على أنّ أعيش إثارة الكفاح في الجهة الخاطئة!
***
قبل أن أضع رأسي على المخدة، أعدت تشغيل ساعة المنبه في الهاتف.
تذكرت أن رسالة وصلتني ولم أقرأها، فتحتها..
وبعد 8 ساعات كنت أتفق مع مرسلها على مرافقته للحج.
رحلة فجائية، أرى أنها إشارة لإعادة اكتشاف 'شغف الحياة'
فالرتابة فيها كالذبابة .. لا يقتلها إلا صفعة مفاجئة!
________________________
*جبران خليل جبران، يوم مولدي، من كتاب (دمعة وابتسامة).
**عن "التدين والنفاق بلسان القط والفأر" للعلامة البهائي (رحمه الله).
*** من رباعيّات عمر الخيام، ومعناها:
لا يحصد المرء من هذه الأرض الملحية إلا الغصص.
فهو حليف الغصة حتى تفارق روحه بدنه. فالسعيد من يرحل عن هذه الدنيا بسرعة، وأسعد منه من لم يولد فيها أبدًا!
*** جملة مقطتفة من نصّ لـ شوبنهاور.