أكتب الآن وأمامي ثلاثة ملفات سياسية ساخنة، سياسية بامتياز تعبّر عن الصراع السياسي بوجهه الحقيقي. الملف الأوّل هو الملف اللبناني الذي نجحت فيه المعارضة بتحويل خسارتها المفاجئة في الإنتخابات النيابية الماضية إلى انتصار وقّع عليه أغلبية الشارع اللبناني.
هذه الممارسة السياسيّة ذات النفس الطويل، وامتصاص الصدمة المفاجئة، تنبئ عن وجود أهداف رئيسية هي الغاية صيغت لها طرق متعددة، قد يبدو بعضها ممكنًا وفي اليد فيُعتمد عليه، وتُترك باقي الطرق على الرف، فإن فشل الأول تم اللجوء للباقين. العمل نحو تحقيق هذه الأهداف يضع باعتباره جميع العقبات، ويحدد التعامل المناسب معها، بحيث لا يكون هناك مجال للعفوية، أو العبثية، أو المواقف وليدة اللحظة.
الملف الثاني هو الملف التونسي، بعد انقشاع سكرة الانتصار بدأت التسريبات عن الساعات الأخيرة بالظهور. بات من الواضح أن ابتعاد زين العابدين كان تضحيةً ثمنها إبقاء النظام. تونس تختلف عن جاراتها بأنّ بورقبية استلهم النموذج الأتاتوركي بصورة عربيّة محسنّة، وعمل بكل ما بوسعه لتأسيس الدولة على هذا المفهوم وهو ابقاء النظام بغض النظر عن الرأس بالسلطة، حيّد الجيش، ففي دولة صغيرة بين عمالقة لا توجد مهام واقعية ترتبط به، وفعّل الأمن الداخلي مؤسسًا لنظام علماني، مدني، تكفل المؤسسات القائمة تفردّه بالسلطة وتحكم أي شخص يعتليه بالسير في هذا الإتجاه.
حين هرب "بن علي"، أراد بهروبه اكمال عملّية التجميل لوجوه السلطة في سبيل الحفاظ على النظام القائم، لكن خاب من افترى، وأثبت الشعب التونسي أنه واعٍ لهذه اللعبة، ومطالبه ليست بتغيير «أشخاص» إنما بنظام مؤسساتي كامل. لا يريد الترميم، بل إعادة البناء، والهدف هو قطع الماضي، وبناء الحاضر لأجل تشييد المستقبل.
الملف الثالث هو الملف المصري، من المفترض أن يكون اليوم «يوم الغضب» وشرارة الثورة، لكنه حسب الظاهر سينتهي كعشرات الأيّام غيره دون أن يأتي بالجديد، مقارنة بالملفين السابقين يبقى النظام المصري الوحيد القادر على مجابهة الشارع رغم كل الغضب الشعبي العارم، والحالة المتردية التي تمثل أرضًا خصبة لأي حالم بالثورة التي قد تولد في أية لحظة وتجرف معها كل شيء.
الشيء المشترك بين الملفات الثلاثة هو دور الذكاء السياسي الذي يتمثل في الهدف وصولاً إلى الغاية. فالعبثية تذبح أي فعلٍ، والعشوائية هي شهادة وفاة مبكرة لأي تحرك في الشارع، واقرار بالهزيمة المبكرة، وغالبًا ما تكون هذه العشوائية وليدة الضعف الفكري الذي يجمع الفرقاء، فهم بحسب أفلاطون مثل «مُروّض أوكلت إليه العناية بوحش كبير قوي» يهتمّ بمداراته أكثر من دراسته.
في تونس انطلقت المظاهرات بشعار «أنا تونس، كلنا تونس»، وفي لبنان كان التحرّك واضحًا ومتوافقًا شعبيًا وسياسيًا لرفع اليد الأمريكية عن رأس السلطة التي عطلت البلاد وشلّته وهي على شفير وضع لبنان بأكمله تحت البند السابع لمجلس الأمن، أي سلب السلطة نهائيًا من الدولة! وفي مصر التي سمح النظام بها بالصراخ ضده، استطاع أن يحافظ على يده الطولى في الإمساك بالبلاد دون أن يتأثر، احتوى المعارضة بتحويلها إلى معارضة صراخ وخطابات ونزول إلى الشوارع بعد أن انتزع من حركتها «الغايـة».
قدرة الامتصاص الكبيرة التي يمتكلها النظام المصري، هي بسبب هامش الحريّة النسبيّة للصراخ الذي وهبه مجانًا للشعب، بعد أن سلبه كل معاني الحياة الكريمة، لأنه يعلم أنّ الصراخ لا يزيل البنيان، والنحيب لا ينتزع الحقوق. أصبح سب الحكومة بدءًا من الرئيس وانتهاءًا بأصغر موظف في أحقر دائرة وشتمها واتهامها بالعمالة والفساد يجري على كل لسان، ويتكرر في كل موقف يصادف المواطن في كل يوم، إلى درجة غدت بها مثل هذه الألفاظ تعبيرًا بليغًا تجري مجرى الأمثال والحكم.
أصبحت المعارضة المصرية - حتى الآن أقلاً-، دون وعي منها، رهينة بالحكومة، هي التي تغذيها متعمدة بالقضايا، وتثير الأزمات بلا مقابل، لتعطي الذريعة للمعارضة التي تبدأ تلقائيًا بتلقفها والصراخ بها، وتُشعل الصحف بالمقالات، وتنتهي ساعات البثّ التلفزيوني وخطابات التذمّر لم تنته، ووصلات السخريّة التلفزيونية، والنقمة الشعبية لم تنته، وتخرج الجموع للشوارع هاتفة ليعود كل منهم لفراشه ليلاً بعد أن أتمّ وجبته النضالية، وبقيت الحكومة كما هي تسيّر الأمور مثل ما تشتهي، وتمد أذرعها كما ترغب، في نفس الوقت تكون قد نفّست عن الاحتقان الشعبي، وقللّت من مستوى ردّات الفعل، ضامنةً بذلك عدم مجابهة انفجار مفاجئ يخلط أوراقها، بعكس تونس التي منعت حتى الهمس بما يجري، فاربك انفجار المعارضة السلطة، وانهارت.
«إنّ الفرد الذي اكتشف فجأة أنّ عمليات حرمانية تجري على دائرته الاجتماعية، قد يقرن تاريخ هذه العمليات بالحدث الذي لفت نظره إليها لأوّل مرة، فيصبح هذا الحدث في ذهنه هو بداية العمليّات»*، هكذا يتم تحويل المعارضة، دون وعي، إلى آلة بيد السلطة، على قدر الضوضاء التي تثيرها وتبدو أنها متوجهة نحو السلطة، وتهددها، في الحقيقة هي تخدمها نتيجة الإنطلاق من ردّة الفعل دائمًا، تحركها الرغبات، ويدفعها حبّ استثمار اللحظة، فتنساق خلف مصيدة السلطة، وتهدف إلى محاكمة أفعالٍ آنيّة، أو منهجيّة معيّنة، لا إلى تأسيس منهجيّة جديدة، أو لوضع رؤية تنفذ إلى ما خلف الوعي المزّيف المُقدّم لها، الذي تعيد - هذه المعارضة - تصديره للعامّة، في ممارسة رتيبة لـ«حقل المكيدة» بتعبير دوبريه. فغدت الحكومة تشغل المعارضة وتهيجها بحسب ما تشتهي، وتريد.
ما حدث في لبنان كشف أنّ المعارضة ليست عبثية، همّها المعارضة وانتظار ما تقدمه الحكومة لها من قضايا لتعمل وفقها، ولتمارس ألاعيب الحيلة للإبقاء على الوضع كما هو لاستنزافه لمصلحتها، إنما غائية، لها أهداف واضحة تعمل لأجلها، ولا تنتظر هفوات الحكومة حتى تصيغ برنامجها عليه. وما حدث في تونس يمكن الإشارة إليه بالدرس البليغ الذي يستحق التحيّة حتى الآن، وهو موقف الوعي، لا وعي الموقف، وأنّ هذه الثورة ليست حالة تنفيس عن الغضب من شخص «الرئيس» فقط، فهو حلقة من منظومة مؤسساتية كاملة تقود البلاد هي التي بحاجة للتغيير بكاملها، لا مجرد شخصياتها.
تفاعل المعارضة في لبنان، وتونس مع الأحداث الجارية يُظهر أنها لا تنتظر ما تسفر عنه الأوضاع لتضع أهدافها، بل تتفاعل معها لتعيد تشكيل طريقة الوصول لهذه الأهداف المحددة التي تنطلق منها، وهذا هو المطلوب من المعارضة لتكون ناجحة واقعيًا، فمن الغباء الإصرار على حلٍّ واحد أثبت فشله سابقًا، برجاء نجاحه هذه المرة، كمن يقود سيارته في طريق مسدود كل يوم على أمل أن تحدث معجزة غيبية تفتح الطريق هذا اليوم.
الطريق الوحيد لنجاح أي معارضة، هي بتحويلها إلى حركة هادفة عامّة، لا لحركة انتقامية تستهدف شخصًا لا منهجية، وأوّل خطوة في هذا السبيل هي بالتخلّص من مكوّني الوعي المزيّف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، مالك بن نبي، ص95
=> فضلاً راجع: الرمز ناصر المحمد