
.
في بعض الأحيان قد تغيب أقرب الأشياء لنا عن أنظارنا، لأننا لا نشاء رؤيتها، بل نتمنى وندعو ونرجو في نفس الوقت أن تكون بعيدة، لذا نبحث في ذلك البعيد، ولا نلتفت لما هو قريب. حين تكتشف أن سببًا ما يُعطلك هو من صنعك، وحدث بإرادتك، وأنك أنت من تتحكم به تشعر بالغثيان، في معظم الأحيان يكون غثيانًا معنويًا -نفسيًا- وليس بمعناه المرَضي.
.
أمراض النفس وأعراضها، ليست كأمراض البدن، قد يزول الصداع بحبة بنادول، ولكن من الصعب أن تزول الكآبة أو يختفي الشعور بالاغتراب بقرص اسبرين. الأعراض النفسية هي باطنية يعيش معها الإنسان بكامل كيانه ويتطبّع بها، وفي غالب الأحيان لا يحب الإنسان أن يتوقف ليُعيد تقييم طباعه وتصرفاته ويُطلق عليها أحكامًا: هذه حسنة وتلك سيئة!
.
فهناك جنبة في كل إنسان، أنه «يتقوقع» على ذاته، ويعتبر أن الأطوار التي يمر بها من سعادة وفرح وحزن واكتئاب وأسبابها هي وحدها التي تعطيه المقياس الأفضل لكل شيء، فهو إن شعر بالفرح أراد للناس كلهم أن يشعروا بذلك مثله، و إن حزن لا يستحمل أن يرى أحدًا يفرح أو حتى يبتسم أمامه. لانه حزين أو مكتئب فعلى النّاس كلهم أن يكونوا مثله وإلا فهم قليلي الأدب، ولا يملكون التقدير المناسب.
.
حاولت طوال الأمس أن أعصر ذهني محاولاً الوصول للإجابة، ولم أستطع! كأنّ هناك حاجزًا يمنعني من التقدم أكثر في ذاكرتي، الإجابة التي أبحث عنها مختصة بسؤال: أين قرأت هذا التعريف للاوقات القذرة؟ باءت كل محاولاتي بالفشل، وبدأت ذاكرتي تلعب لعبتها المفضلة معي، لعبة تشبه تلك التي نمارسها مع الأطفال حين نقرب اللقمة من أفواههم فإذا فتحوها ليأكلوها سحبنا اللقمة بعيدًا.
.
قررت أنني وصلت لمرحلة اليأس، لا يهم أين قرأت ذلك، لم تعد هناك من حاجة إلى التذكر طالما أن المعنى لا زال حاضرًا في ذهني، وأنه يشرح إلى حدٍّ ما هذا الجمود والكسل و عدم الرغبة بإنجاز أي شيء الذي تسلل لي منذ فترة حتى بات يتملكني كما تملّك الغبار أجواءنا، لتحررنا أمطار اليومين السابقين من قيود الغبار، وتشرق في نفسي الحاجة إلى البحث عن طريق العودة إلى «أوقاتي النظيفة»، التي افتقدتها منذ مدة، كما افتقدت قطع الأثاث النظافة قبل أن يصدر (الفرمان) بتنظيفها.
.
تمسح الأثاث بمنشفة، يظهر لمعان أسطحها المفقود من جرّاء هجمات الغبار المتوالية، تكتسب المنشفة بعض الغبار، لكنها تستطيع أن تقوم بنفس المهمة مرة أخرى، وأخرى، وأخرى، حتى لا تعود صالحة لمسح المزيد من الغبار بسبب توسخها، وحين تمطر السماء تستخدم المنشفة لتمسح الماء المتسرب، فينتهي عمل المنشفة، لم تعد جافة ليُعاد استخدامها فإنها باتت مبللة لا تصلح لأن تقوم بنفس المهمة مجددًا.
.
نوعًا ما، نحن مثل هذه المنشفة، نظيفة ومستعدة للعمل، كما أننا مستعدون لأن نكتب، ونضحك، و"نتغشمر"، ونتفاعل مع كل الذين حولنا كما يريدون، ونريد، وما أن نبدأ بهذا الشيء حتى نفقد نقاوتنا شيئًا فشيئًا. كلما ازداد احتكاكنا بالناس، وزاد انهماكنا بأعمالنا، واستغرقنا بتفاصيل الحياة المتعبة والمملة، نفقد شيئًا من نظافتنا لصالح ذرات الغبار التي نكتسبها من هذه التفاعلات حتى نصل إلى مرحلة «الوقت القذر» عندها تتعكر قدرتنا على التواصل و التفاعل السليم ونصبح عرضة للاحتقان و الإنزواء و العصبية، قد يصل بعضنا مبكرًا لهذه المرحلة لأنه استعمل لامتصاص الماء، وقد يتأخر البعض الآخر لانه يكتسب الغبار شيئًا فشيئًا، في النهاية جميعنا نصل إلى خط النهاية هذا.
.
هل قلّت مشاكلنا أم زادت؟ لم تقل ولم تزد، عندما أقرأ كتابًا يتناول تاريخ مرحلة معينة بتفاصيلها، لا أجدها تختلف عمّا نعيشه الآن إلا بدرجتها، لكن الذين عاشوا في الماضي افتقدوا وسائل الإعلام التي أصبحت تحاصر المرء بأنبائها في كل لحظة، وكل مكان، كانوا يملكون فسحة يسعون فيها إلى تنقية أنفسهم بينما أصبحت أوقاتنا القذرة لا تقتصر على وقت العمل وضغوطاته المتعبة، ولا على وقت نشرة السابعة والنصف أو التاسعة مساءً، ولا على مواسم الخطابات السياسية وأيامها، بل دارت عجلتها لتوقعنا في شباكها طوال اليوم حتى صارت قدرتنا على امتصاص المزيد منها معدومة، كالمنشفة التي نستعملها لنمسح بقع الدهن .. أو تسرب مياه الأمطار.
.
وهذا الذي نغيبه عامدين عن أنظارنا، وهو أننا نشغل أنفسنا بامتصاص المعارك الكلامية، وبمواقف الآخرين، بشعاراتهم، وجريانهم نحو مصالحهم التي يلونونها بالأصباغ البرّاقة حتى ننخدع بها، ونعيش في دوامة الشعور بالذنب نتيجة التقصير تجاههم، ويأخذنا الهوس الجماعي بأننا لا نفعل شيئًا تجاه تلك التضحيات الجسام التي يقومون بها، أو أننا لا نجازيهم حق جزائهم عليها، وبسبب وسائل الإعلام التي ' تـزن ' على رؤوسنا لا نفرغ من هذه الضجة لنتساءل عن الدافع الحقيقي لهؤلاء؟ أو هل أن المبدء يتجزأ؟ حتى نصفق ونهلك أنفسنا في يوم لمدعي مبدءٍ كان هو أول من أهمله في زمنٍ مضى.
.
في الواقع، نحن لا نبحث ولا نريد البحث عن الإجابة على هذه الأسئلة، لأنها ستصدمنا بمقدار الوهم الذي نوهم به أنفسنا حين نعتقد أنّ مللنا وغثياننا هو من صنع غيرنا، ونتيجة لأفعالهم، ونفضل إلقاء تبعات عدم تقبلنا لحياتنا الاجتماعية، وسوء تصرفنا مع القريبين من حولنا، وعدم قدرتنا على أن نلتفت لمشاكلنا الصغيرة تحت حجة انشغالنا بالدفاع عن القيم والمبادئ و (المشاكل الكبيرة) ولكن: هل هناك فائدة لقيم عظمى توضع لمجتمع يُهمل أفراده قيمه الصغرى؟
.
حسنًا، من الصعب التفكر قليلاً، فهذه العملية تتطلب إعادة تقييم أفعالنا، وتصرفاتنا، فسهولة إطلاق الأحكام على الآخرين لا يقابلها إلا صعوبة إطلاق حكم قاسٍ على أنفسنا.
أصبحت عملية البحث عن «الأوقات النظيفة» نتيجة «التقوقع» تحمل بين طياتها إتهاماتٍ جاهزة لصاحبها بأنه غير متفاعل، ولا يقر الحرية، ولا ينادي بالديمقراطية، ولا يرفع شعارات حقوق الإنسان، رغم أن المسألة باختصار هي: لقد تم إغراقنا بـ«الأوقات القذرة»، وحُرمّ البحث عن «الأوقات النظيفة»علينا.
.
أمراض النفس وأعراضها، ليست كأمراض البدن، قد يزول الصداع بحبة بنادول، ولكن من الصعب أن تزول الكآبة أو يختفي الشعور بالاغتراب بقرص اسبرين. الأعراض النفسية هي باطنية يعيش معها الإنسان بكامل كيانه ويتطبّع بها، وفي غالب الأحيان لا يحب الإنسان أن يتوقف ليُعيد تقييم طباعه وتصرفاته ويُطلق عليها أحكامًا: هذه حسنة وتلك سيئة!
.
فهناك جنبة في كل إنسان، أنه «يتقوقع» على ذاته، ويعتبر أن الأطوار التي يمر بها من سعادة وفرح وحزن واكتئاب وأسبابها هي وحدها التي تعطيه المقياس الأفضل لكل شيء، فهو إن شعر بالفرح أراد للناس كلهم أن يشعروا بذلك مثله، و إن حزن لا يستحمل أن يرى أحدًا يفرح أو حتى يبتسم أمامه. لانه حزين أو مكتئب فعلى النّاس كلهم أن يكونوا مثله وإلا فهم قليلي الأدب، ولا يملكون التقدير المناسب.
.
حاولت طوال الأمس أن أعصر ذهني محاولاً الوصول للإجابة، ولم أستطع! كأنّ هناك حاجزًا يمنعني من التقدم أكثر في ذاكرتي، الإجابة التي أبحث عنها مختصة بسؤال: أين قرأت هذا التعريف للاوقات القذرة؟ باءت كل محاولاتي بالفشل، وبدأت ذاكرتي تلعب لعبتها المفضلة معي، لعبة تشبه تلك التي نمارسها مع الأطفال حين نقرب اللقمة من أفواههم فإذا فتحوها ليأكلوها سحبنا اللقمة بعيدًا.
.
قررت أنني وصلت لمرحلة اليأس، لا يهم أين قرأت ذلك، لم تعد هناك من حاجة إلى التذكر طالما أن المعنى لا زال حاضرًا في ذهني، وأنه يشرح إلى حدٍّ ما هذا الجمود والكسل و عدم الرغبة بإنجاز أي شيء الذي تسلل لي منذ فترة حتى بات يتملكني كما تملّك الغبار أجواءنا، لتحررنا أمطار اليومين السابقين من قيود الغبار، وتشرق في نفسي الحاجة إلى البحث عن طريق العودة إلى «أوقاتي النظيفة»، التي افتقدتها منذ مدة، كما افتقدت قطع الأثاث النظافة قبل أن يصدر (الفرمان) بتنظيفها.
.
تمسح الأثاث بمنشفة، يظهر لمعان أسطحها المفقود من جرّاء هجمات الغبار المتوالية، تكتسب المنشفة بعض الغبار، لكنها تستطيع أن تقوم بنفس المهمة مرة أخرى، وأخرى، وأخرى، حتى لا تعود صالحة لمسح المزيد من الغبار بسبب توسخها، وحين تمطر السماء تستخدم المنشفة لتمسح الماء المتسرب، فينتهي عمل المنشفة، لم تعد جافة ليُعاد استخدامها فإنها باتت مبللة لا تصلح لأن تقوم بنفس المهمة مجددًا.
.
نوعًا ما، نحن مثل هذه المنشفة، نظيفة ومستعدة للعمل، كما أننا مستعدون لأن نكتب، ونضحك، و"نتغشمر"، ونتفاعل مع كل الذين حولنا كما يريدون، ونريد، وما أن نبدأ بهذا الشيء حتى نفقد نقاوتنا شيئًا فشيئًا. كلما ازداد احتكاكنا بالناس، وزاد انهماكنا بأعمالنا، واستغرقنا بتفاصيل الحياة المتعبة والمملة، نفقد شيئًا من نظافتنا لصالح ذرات الغبار التي نكتسبها من هذه التفاعلات حتى نصل إلى مرحلة «الوقت القذر» عندها تتعكر قدرتنا على التواصل و التفاعل السليم ونصبح عرضة للاحتقان و الإنزواء و العصبية، قد يصل بعضنا مبكرًا لهذه المرحلة لأنه استعمل لامتصاص الماء، وقد يتأخر البعض الآخر لانه يكتسب الغبار شيئًا فشيئًا، في النهاية جميعنا نصل إلى خط النهاية هذا.
.
هل قلّت مشاكلنا أم زادت؟ لم تقل ولم تزد، عندما أقرأ كتابًا يتناول تاريخ مرحلة معينة بتفاصيلها، لا أجدها تختلف عمّا نعيشه الآن إلا بدرجتها، لكن الذين عاشوا في الماضي افتقدوا وسائل الإعلام التي أصبحت تحاصر المرء بأنبائها في كل لحظة، وكل مكان، كانوا يملكون فسحة يسعون فيها إلى تنقية أنفسهم بينما أصبحت أوقاتنا القذرة لا تقتصر على وقت العمل وضغوطاته المتعبة، ولا على وقت نشرة السابعة والنصف أو التاسعة مساءً، ولا على مواسم الخطابات السياسية وأيامها، بل دارت عجلتها لتوقعنا في شباكها طوال اليوم حتى صارت قدرتنا على امتصاص المزيد منها معدومة، كالمنشفة التي نستعملها لنمسح بقع الدهن .. أو تسرب مياه الأمطار.
.
وهذا الذي نغيبه عامدين عن أنظارنا، وهو أننا نشغل أنفسنا بامتصاص المعارك الكلامية، وبمواقف الآخرين، بشعاراتهم، وجريانهم نحو مصالحهم التي يلونونها بالأصباغ البرّاقة حتى ننخدع بها، ونعيش في دوامة الشعور بالذنب نتيجة التقصير تجاههم، ويأخذنا الهوس الجماعي بأننا لا نفعل شيئًا تجاه تلك التضحيات الجسام التي يقومون بها، أو أننا لا نجازيهم حق جزائهم عليها، وبسبب وسائل الإعلام التي ' تـزن ' على رؤوسنا لا نفرغ من هذه الضجة لنتساءل عن الدافع الحقيقي لهؤلاء؟ أو هل أن المبدء يتجزأ؟ حتى نصفق ونهلك أنفسنا في يوم لمدعي مبدءٍ كان هو أول من أهمله في زمنٍ مضى.
.
في الواقع، نحن لا نبحث ولا نريد البحث عن الإجابة على هذه الأسئلة، لأنها ستصدمنا بمقدار الوهم الذي نوهم به أنفسنا حين نعتقد أنّ مللنا وغثياننا هو من صنع غيرنا، ونتيجة لأفعالهم، ونفضل إلقاء تبعات عدم تقبلنا لحياتنا الاجتماعية، وسوء تصرفنا مع القريبين من حولنا، وعدم قدرتنا على أن نلتفت لمشاكلنا الصغيرة تحت حجة انشغالنا بالدفاع عن القيم والمبادئ و (المشاكل الكبيرة) ولكن: هل هناك فائدة لقيم عظمى توضع لمجتمع يُهمل أفراده قيمه الصغرى؟
.
حسنًا، من الصعب التفكر قليلاً، فهذه العملية تتطلب إعادة تقييم أفعالنا، وتصرفاتنا، فسهولة إطلاق الأحكام على الآخرين لا يقابلها إلا صعوبة إطلاق حكم قاسٍ على أنفسنا.
أصبحت عملية البحث عن «الأوقات النظيفة» نتيجة «التقوقع» تحمل بين طياتها إتهاماتٍ جاهزة لصاحبها بأنه غير متفاعل، ولا يقر الحرية، ولا ينادي بالديمقراطية، ولا يرفع شعارات حقوق الإنسان، رغم أن المسألة باختصار هي: لقد تم إغراقنا بـ«الأوقات القذرة»، وحُرمّ البحث عن «الأوقات النظيفة»علينا.