في الكويت، جلست معه وكصاحب تجربة غنية وقلم سيّال وفكر غني، احتدم الحوار، فاضطررت في إحدى الأحايين إلى أن أسرد له موقفًا سمعته عن "شخص ما" حتى أدلل على موقفي، ليفاجأني بكلمة جمدت الدم في وجهي: هذا الشخص چـذاب![كذاب]، إذًا لماذا لا تنشر ذلك للعلن؟ لا جواب.
بعدها بأسابيع قليلة، وفي بغداد التي تنتشي من عبق الحزن وهو يشتمل زواياها، وتتناغم أصوات المولدات مصدرة آهات دائمة تحاكي مصاب هذه المدينة المكلومة، جلست مع أحد الأصدقاء، أم أقول المعلمين، هذا الشخص صاحب تجارب وخبرات أخالها لو قسمت على الناس لفاضت، ولو قُطعت ووزعت على الكائنات لزادت، ورغم ميله الشديد للحديث إلا أنه لا يفلت من زمام فمه إلا أقل القليل، فالكلمات عنده فيما عدا المسامرة، محسوبة وموزونة وقاطعة، لا أذكر تحديدًا ما الذي أتى على ذكر تلك الشخصية مجددًا، ولكنه فاجاني بأن وصمها بـ"الكذب"، شبه اتفاق على تلك الشخصية، ويتجمد الدم مجددًا في وجهي!
يبدو أنه لاحظ ذلك، فبدأ بسرد بعض الحوادث المدللة على ذلك، ويؤكد لي أنه لولا المعرفة التي تربطني به لما تحدث بهذا أبدًا!
ما أعاد لذاكرتي هذين الموقفين، نقاش جرى بيني وبين أحد زملاء العمل الذي كان يصر على تدعيم آرائه بأقوال تلك الشخصية، واعتبارها حدًا لا يمكن تجاوزه نظرًا لما تتمع به هذه الشخصية من مكانة اجتماعية، وسياسية، وقداسة دينية أضفتها السلطة عليه، وتقبلها المجتمع بقبول حسن.
في الوقت الذي لم يعد بقدرتي أن أرد تلك الأقوال رغم تهافتها، ليس باستطاعتي أن أبدي طعنًا بما فيها، أو بصاحبها، وحتى ولو كان متوجهًا ناحية فكره ومنهجه السياسي أو أطروحته الدينية بعيدًا عن شخصه.
أرجو تعميم الصورة أكثر، لأبين اشكالية كثيرًا ما اجد نفسي فيها، حين ينعقد لساني عن التحدث في موضوع ما، لكون قائله يتمتع بمثل تلك الهالة، فمجابهتها يعني حتمًا الإنتحار، والسكوت عنها قد يُفسر على أنه عجز عن الإجابة، وكلا الموقفين مصيبته أشدّ من الآخر.
لا يمكن مجابهة المجتمع، لأن سيله يجرف كل ما يقف بوجهه، ومن الطبيعي جدًا، وفي مجتمعات قابلة للشحن، أن تُصنّف في أسوء الخانات لمجرد معارضتك للتيّار العام، وكونك مطلعًا على ما لم يطلع عليه الآخرون، لا يغفر لك مثل هذا الموقف، فتضطر لأن تداهن أو تصمت أو تحتال وتستعين بكل ما اخترعه اللغويون وابتكروه من أساليب التورية والتضمين!
ومن ناحية أخرى، سكوتك قد يفسّر على أنه انعدام للجواب، أو عجز، أو استسلام، والأسوء من ذلك أنه قد يعطي انطباعًا بكون موقفك مبنيًا على شخصانية تفتقد لأي ضرب من ضروب المنطق.
ونظرًا للسرعة التي باتت سمة للعقود الأخيرة، أصبح البحث عن رأي أوموقف أولى من تكوينه، كما استغني عن الطعام بالوجبات السريعة الجاهزة، بدأت الاستعانة بالمواقف الجاهزة والآراء المعلبة حتى تتماشى مع تسارع الأحداث الجارية التي تغذيها وسائل الإعلام وتعيد تصفيفها وتبثها بسرعة شديدة، فالوقت لا يسمح بالبحث والتحليل لكل هذه القضايا على حدة.
والبحث عن رأي ليتم اقتباسه، يحتاج لشخصية قابلة لأن تعطيه وعلى هذا الأساس أصبحت سمات الرمزية تسبغ بالعشرات يوميًا، فكل صاحب رأي يلقى هوى في النفوس، يكون عضوًا فاعلاً في دائرة الرموز التي لا تكتمل إلا بأن تُلحق بمسميات لا يُختلف عليها. ففلان رمز الحرية، والآخر رمز العدالة وعلى هذا الدرب سِر.
وتتعاظم هذه الصفات إذا ما امتلكت «منزلة» تتيح لها تصدّر الآراء نتيجة لخلفية اجتماعية أو سياسية أو ما شابه ذلك، سيّما إن خدمتها الظروف الراهنة بأن جعلتها تقف في جانب المطالبة بما تريده الأغلبية، أو تتوهم أنها تريده، وهذا موضوع منفصل.
الإنسان كائن رمزي يميل إلى ترميز كل شيء بما فيها الشخوص والآراء ليستمدّ منها ما يدعم وقوفه في طرف مقابل الآخر، ليس من السهل (إن لم يكن من شبه المستحيل) كسر الأصنام الذهنية التي يخلقها البشر، ويحولونها إلى رموز.
أعود لزميلي في العمل، لأعيد تشكيل الموقف الذي دسني بين نارين، أن أقول له ما أعرفه عن هذا الشخص أم أصمت، هل أحاول هدم الصورة النقية المصطنعة لهذه الشخصية؟ في الوقت الذي تتمتع به بقبول واسع على أنها شخصية نزيهة ورائعة، هذا يعني أنني أعارض الأغلبية وأضع نفسي –أنا النكرة- في قبال ذلك العلم، بما يعنيه ذلك من سلّة التهم الجاهزة، وأن أسكت فهذا يعني قبولي لمصادرة اختلافي بكل بساطة، في حالة تشبه ما كان يجري في القرون الوسطى بأوروبا بحيث يكفي أن يقول أحدهم (قال أرسطو كذا) ليُقطع كل نقاش، ويرسل قوله إرسال المسلمات مهما كان.
أحيانًا تكون المعرفة نقمة، واليوم بعد أن مررت ولا أزال بمثل هذه الحالة، بدأت أشعر بمعاناتهما وهما يسمعان ويريان الخديعة تتحول إلى حقيقة، وهما مجبران على الصمت. فلا يمكن للإنسان أن يضع نفسه تحت رحمة الجموع التي لا تقبل بما يُعارضها، طالما أنّه يمس «القداسة المتوهمة» لصنّاع الرأي.
ربما هذا الذي يدفع العديد ممن قابلت، وأنا أعلم علم اليقين بما يملكون من معرفة، للاكتفاء بابتسامة أو ألفاظ مبهمة بدلاً من التحدث بما يجر عليهم النقمة. وربما هذا ما دفعني إلى الابتسام ومجاراته بحديثه حتى لا أفتح أبوابًا مغلقة تزيد ضيق العمل ضيقًا!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أرى من المناسب في هذا المقام،
مراجعة هذين الموضوعين: