10 أبريل 2010

تـفـاصـيـل



يقول العرب بأن الشاعر البارع له شيطان يلقي عليه شعره، ويقول الإنجليز بأن الشيطان يكمن في التفاصيل (The demon is in the details)، وأجمل الأشعار هي تلك التي تصف تفاصيل الأحداث، في الغزل، والفرح، والحزن، والحياة. على هذا تكون كلها نتيجة لـ وحي الشيطان وفق القياس الأرسطي !
فالشيطان يوسوس بما يعاكس الحقيقة، وشياطين التفاصيل تكشف لنا سطحية الكثير مما يُنسب للحقيقة دون دليل! إذا كانت الأرض في يوم من الأيام هي مركز الكون، فقد أوصلها السعي الحثيث نحو اكتشاف ذلك إلى جعلها اليوم مجرد جرم حقير بين ملايين الأجرام في الفضاء!
.
في العصر الحديث، ولكون الإنسان بطبيعته لا يحب التعامل مع المجهول، فإنه يلجأ إلى حيلة قديمة يستعمل بها مخيلته ليضفي التفاصيل من عنده، أو ليرسم صورة ما يجهله في ذهنه وفقها، فهو لا يحب الإكتفاء برؤية الأمور من السطح بل يحب رؤية نفسه في موضع العارف والمطلع دائمًا .. حتى ولو كان يعلمُ في قرارة نفسه بجهله!
.
كنت قبل فترة وجيزة أخبر أحدهم عن النقانق، وأنها مثل الكثير من الأشياء في هذه الدنيا، لها طعم لذيذ، ويأكلها معظم الناس بشهية مفتوحة، ولكني منذ شاهدت في إحدى المرات طريقة صنعها، لم أعد أستطيع تحمل مجرد النظر إليها، أو حتى تخيل صورتها في ذهني! لا تزال مكوناتها وطريقة صنعها تعيد إليّ الشعور بالقرف والغثيان، لعل ذلك بسبب أنّ روعة بعض الأشياء هي في بقاء تفاصيلها مجهولة، ومغيّبة.
.
قد تكون كثير من الأشياء أو الكلمات والأفكار جميلة أو لذيذة أو رائعة لا لأنها على هذه الحال في واقعها، إنما لأننا لم نستطع أو نرغب بمعرفة تفاصيلها، وبقدر تعمقنا في التعرف على هذه التفاصيل سنتخلى عن الصورة الجميلة التي نحتفظ بها لهذه الأشياء شيئًا فشيئًا، ونستبدلها بصورة تزيدها قبحًا، وتزيدنا ابتعادًا عنها، ولكن هذا مشروط بكون هذه التفاصيل تلامس واقع هذه الأشياء.
.
هل يمكن للعين أن ترى نفسها؟
في الحقيقة، كان هذا السؤال من الأسئلة القليلة التي جعلتني أتوقف لأحاسب نفسي، كيف لم أنتبه سابقًا لمثل هذا الشيء الذي نمر عليه مرور الكرام، ولا نلتفت إليه؟ ربما يكون ذلك لشدة قربه ووضوحه، فـ غالبًا ما تحت أنوفنا لا تراه عيوننا!
كما لا يمكن للعين أن ترى نفسها، كذلك الكثيرون لا يرون أنفسهم. أحد الأصدقاء دائمًا يذكرني بإحدى حلقات مسلسل كارتوني (Pinky & Brain) حين كان الفأران يخططان لاحتلال العالم، وأولى الخطوات لذلك، كما كانا يأملان، هي بصعودهما لأعلى طاولة المطبخ! بالنسبة لهما يمثل الوصول للأعلى هدفًا استراتيجيًا يستحق التخطيط والعمل لأجله، وبالنسبة لنا هو أمر مضحك، والسبب هو معرفتنا بأن صعود طاولة لا يعني أكثر من ذلك! وفي نفس الوقت نغفل عن حقيقة واضحة: أحلام المرء هي التي تحدد أهدافه، لا قدراته.
.
العالم الكبير المتواري خلف الطاولة يظل في خانة «اللا معلوم» عندهما وخفاء تفاصيله هو الذي صور سهولة احتلال العالم بمجرد تسلق الطاولة، التي لا يريان عقبة سواها أمامها. في كثير من الأحيان، يكون البعض في نفس الموضع، لا يرى نفسه وأين هي، وعلى أيّة مسافة تقبع من القضية التي يحاكمها، ومع هذا يُصدر الأحكام ويعتبرها مسلّمات دون اخضاعها للاختبار لاثباتها، فحلمه بأنه عالمٌ وصاحب رأي لا تشوبه شائبة، وأنه يقف على الحقيقة المطلقة يجعله لا يبحث عن التفاصيل فهو في غنى عنها، وبحجة أن التفاصيل هي شياطين، يبتعد عنها، ويُبعد الآخرين عنها لعلمه بأنّ الإطلاع عليها يعني نفور الناس من كلامه وهذيانه لوقوفهم
على مدى تفاهة ما أطلقه، فتمسي التفاصيل حينها شيطانًا يشعره بالأسى على نفسه، كما قال الملا هاشم الكعبي -رحمه الله- يومًا: .. وللأسى تفاصيل لا يحصي لهنّ مُفصل!
.
ينسب لإبراهام لنكولن: «أن تصمت ويظن الناس أنك أحمق خير من أن تتحدث وتثبت لهم ذلك».
ثمة نقاشات لم تعد تعطي الدافعية للمشاركة فيها هذه الأيام، وأصبح من الأفضل الإبتعاد عنها لأنها وللأسف- تكشف الكثير من المستويات الضحلة التي تملك ظاهرًا لا يوحي بها. النقاشات السياسية والمعرفية بما في ذلك المذهبية وغيرها في بيئتنا أصبحت محطة للإحباط بما يحدث فيها ولدرجة الحميّة التي تصل لها رغم أن الطرفين يتجادلان بما يجهلون واقعه، فحالهم كحال الفأرين: كلمات عظيمة، ومعرفة ضئيلة!
.
في المدونات، والدواوين، والمجالس الخاصة، وحتى في أماكن العمل تدور نقاشات عديدة كل يوم، تمس الكثير من القضايا، وبعضها حساسة جدًا تتعلق بمصير الإنسان، وتصدر مئات الأحكام ومع هذا فهي بمعظمها قائمة على توهمات وتخيّلات، وقليل منها ما يصدر عن معرفة وعلم. وتكمن المصيبة حين تفضل الصمت على المشاركة بمثل هذه المناقشات لأنك تقع بين نارين: إما أن يفسر صمتك على أنه عجز عن الرد والمشاركة، وإما أن يفسر على أنه تأييد وتأكيد لما قيل!
والواقع أنه صمت للتأمل بمدى قدرة الإنسان على التلفظ بالتفاهات مغلفة بكلمات براقة «تسر الناظرين»!
.
من يرى المنظر من أعلى الجبل ليس كمن يراه من بطن الوادي، وهذه نقمة في بيئة مثل بيئتنا، أن تقف على مرتفع، لأن وقوفك على الكثير من التفاصيل الدقيقة يعني مزاملتك لشيطانٍ يجبرك على أن تغير تقييمك للعديد من الكتاب والمتحدثين، الذين ينخدعون بذواتهم، ويخدعون الناس بكلامهم. وشيطانٌ يجبرك على أن تصمت على تفاهة ما يقولون: الصمت والإبتعاد في أحيانٍ كثيرة يكون في حد ذاته .. موقف وإجابة.

10 مارس 2010

الذي فشلنا فيه


في مقابل الوطنية يقف الوطن، وبمدى قدرة الوطن على تمثيل المبادئ والقيم ونقلها لأبنائه، يتعاظم شعور الوطنية ويخرج من دائرة الشعارات إلى ساحة الأفعال، بغض النظر عن مدى صوابية هذه المبادئ والقيم. فالإنسان من حيث كونه مواطنًا يميل إلى أن يجعل تحركاته تعبيرًا عمّا يمثله هذا الوطن له، وكلما استطاع الوطن أن يخلق عند نفوس أبنائه الإيمان بأنه بما يمثلّه قادر على مواجهة التحديات استطاع أن يحرك الإمكانات ويشحذ الهمم عند أبنائه نحو العمل الجاد والمستمر، فيتحول شعور المواطنية إلى سلوك فعلي ظاهر متزامن مع الشعار، بدلاً من حبسه في قمقم الشعارات والأغاني والهتافات فقط.
.
هذا الشيء فطن إليه كل من أراد أن يقيم وطنًا بسواعد أبنائه. استطاع هتلر بإيمانه العميق بالنازية وطرحه لهذه الآيدلوجية أمام شعبه على أنها المخلّصة والموحدة لهم، أن يخرج أبناء ألمانيا من شعور التفرّد والتمزق إلى العمل الجمعي، فأضحى العمل لأجل ألمانيا هو الهدف عند الجميع، لا العمل لأجل المصلحة الشخصية. على هذا النسق استطاع الشيوعيون بناء دولهم، وهي وللمفارقة، قامت في أكبر الدول مساحة وشعبًا وتنوعًا إثنيًا وعقائديًا كما في الصين والإتحاد السوفييتي، كما استطاع «الآباء المؤسسون» في الولايات المتحدة أن يصنعوا وطنًا من لاشيء ويرجع الفضل بذلك إلى صياغتهم لهدف وهو «الحريّة»، وهذا الهدف جعلوا استمراره وتواجده مشروطًا بدوام الدولة الحامية له، التي أسسوها، فارتبط الوطن بقيمة إنسانية سامية، وأصبح العمل لأجل الوطن هو نفسه العمل لأجل هذه القيمة لضمانها لهم، ولأبنائهم، وللعالم أجمع، وبقاؤه ومنعته من بقاء هذه القيمة ومِنعتها.
.
من هذه الأهداف، تكتسب الوطنية صبغتها، وتمتلك المظهر الذي يعكس صورتها عند أبناء الوطن. بمعنى أنّ الوطنية تتحول إلى سلوك يحافظ، وفي نفس الوقت، يعبّر عن كيان الوطن الذي تنتسب إليه، فالهدف هو الذي يضمن، بحسب تعبير د.البيطار: أن لا يخسر الإنسان تطلعاته المستقبلية التي تعطي معنى للتاريخ الذي يعيشه. والسبب هو لأنه لكي يُمكن للشعب أن يواجه التحديات المستقبلية أمامه عليه أن يؤمن بهدف أكبر من أهدافه الشخصية، ومشاغله اليومية، لذلك يعتبر اليوم الوطني هو يوم إحياء لما يمثله هذا الوطن، ولما يريد التبشير به، باختصار شديد اليوم الوطني هو تبشير بالرسـالة التي تريد البلاد إرسالها لثقافات ودول العالم أجمع. وأسلوب الإحتفال به هو صيغة الخطاب الذي توجهه هذه البلاد للناس كافة.
.
وعلى قدر فراغ الرسالة، يكون فراغ التعبير عنها. فعندما يكتشف المواطن (أو ما يُطلق عليه كذلك) أنّ الرسالة التي يُطلب منه أن يؤمن بها، وأن الأمن والطمأنينة والرفاه الذي يتوقعه من الوطن، غير متوفران يشعر بالفراغ، فيرى نفسه، مجددًا بحسب ما ينقله د. نديم البيطار، «واقفًا في وسط من الفوضى الذي يقترن باضطراب خارجي في مجتمعه»[1]، هذا الفراغ يحدث عند أفراد المجتمع حين لا يتمكنون من اثبات معرفتهم بالأشياء، وهذه الأشياء يمكن القول هنا بأنها: الوطن، فلا يملكون رؤية مستقبلية تعطيهم تباشيرًا تجعل الإحساس بالأمن والديمومة متواجدًا عندهم، ولا يتمكنون من ايجاد الإجابة عن: ما هو هذا الوطن؟ وما هو تأثيره، ودوره؟ وما هي رسالة شعبه للعالم، والإنسانية؟
.
وتنعكس عدم القدرة على اجابة هذه الأسئلة بآثار نفسية وأخلاقية سيئة، ويبدو أثرها واضحًا فيما جرى قبل أسابيع قليلة.
سنة بعد سنة، بدء الإحتفال بالعيد الوطني ويوم التحرير يتحول إلى مناسبة تعبّر بوضوح عمّا يشكلانه في وجدان الشعب، حيث لم تعد هناك قناعة داخلية بوجود رسالة، وهدف، ولم تعد هناك رؤية لمستقبل هذا الوطن، لا يوجد شيء ما يعطي أملاً، ولو زائفًا، بأن ما هو قادم سيكون أفضل حالاً، وأنّ هذا (الأفضل) مرهون بمدى جديّة العمل لأجله. بل تحولا إلى مناسبة تعطي الذريعة لأن يتحول البشر فيها إلى كتلة تمارس همجيتها بأبلغ صورها.
.
لقد كانت رسالتنا هذه السنة، إحدى عشر قتيلاً[2]، وكان التعبير عنها بفوضى أخلاقية، وسلوكية، وقانونية.

أنا لا أستطيع لوم المشاركين بها، لأن الفرد المنخرط بمثل هذه الجموع يقترب كثيرًا من الكائنات البدائية التي تتصرف وفق غريزة (الخوف) من الوحدة فتلجأ إلى البحث عن تكوين علاقات مع أفراد آخرين تحاول باجتماعها معهم الوصول إلى الإحساس بأنها لم تعد وحيدة، حتى ولو كان ذلك على حساب إنسانيتها، فالخوف من «اللا إنسانية» أقل من الخوف من العزلة. ما حدث، قابلٌ لمزيد من التطور في السنوات القادمة، لأن العبثية التي يتم ممارستها هي نوع من أنواع التعبير عن انعدام الوعي، والخواء، وعدم الشعور بالطمأنينة. ولا يفقد الإنسان وعيه إلا إذا أراد الهروب من الواقع المر الذي يعيشه، الواقع الذي بدلاً من الإشارة إليه ومعالجته نندفع إلى فرض المزيد من القوانين والمطالبة باستعمال القوة لمنع هذه المظاهر، فكأننا نعالج ثمرة الشجرة المريضة لا جذورها.
.
المشكلة هي أننا لا نملك رسالة، ولا قناعات، ولا إيمان بالوطن، أو إيمان بأننا نشكل شيئًا مفيدًا لا عبئًا على العالم، ولم ننجح في أن نربط هذا الوطن بقيم يعبّر بوجوده- عنها، وهذا هو الفشل الذريع، أننا إلى اليوم لم ننجح في زرع الثقة بدوام الوطن، أو نوجد التطلع عند أبنائه نحو المستقبل المشرق.
ما حدث كان ولا زال رسالة للآخرين، ولنا، بأننا فشلنا في تحقيق الدافع للعمل على تحقيق ما نريده لمستقبلنا، وفضلنا الجلوس على مقاعدنا حتى تحولت الطاقات المكبوتة عندنا إلى حالات مَرَضية.

لقد تحول مفهوم الوطن إلى شيء شبيه بالـ«مضارب» التي ننتظر أن ينتهي الماء والكلأ فيها حتى نرحل عنها.

_________________
[1] الحزب الثوري، ص144.
[2] انظر:
جريدة الرؤية.

4 مارس 2010

من هو النبي؟ وما الذي حققه؟



يمثل اليوم انقلابًا في تاريخ البشرية، حيث أصبح رمزًا، وذكرى لحدث هزّ الإنسانية على صعيد المعرفة، والحضارة، والأهم من ذلك على صعيد فهم الإنسان لذاته، والغاية من وجوده.


اليوم هو ذكرى ولادة خاتم الأنبياء، وسيد الرسل، محمد صلى الله عليه وآله.


كان يدور في ذهني موضوع عن قاعدة فلسفية جميلة، تقدم إجابات كثيرة عن هذه الشخصية العظيمة، ولكن قلة الوقت، وإزدحام الأعمال سلبا كل الإمكانيات للكتابة، وهو شيء على قدر الإحباط الذي أوجده في نفسي، أسعدني في أن أستخلص كلمات مقتضبة تتناول شيئًا مما يتعلق بصاحب هذه المناسبة صلى الله عليه وآله وسلم، أراها تمس، وإن كان بشكل غير معمق، قضية مصيرية يتفاعل معها كل شخص.


تكون الكتابات تارة عميقة، مدعمة بالشواهد والأدلة، فتنعدم معها كل الحاجة لاعمال العقل البشري في البحث والتنقيب، والتساؤل، وتارة أخرى تكون بسيطة، ولشدة بساطتها تشكل وخزات تحفز الذهن لأن ينطلق في البحث والتدبر حتى يقف على الحقيقة، وهذا هو المرجو، ويخيّل إليّ أن هذه الكلمات منها.


قد تختلف المناسبة التي قيلت بسببها هذه الكلمات، مع المناسبة الآن، ولكن كما يقول الأصوليون (ملاكهما) واحد، أي أنهما يدوران حول نفس المحور.


أسعد الله أيامكم بمولد النبي الأكرم والرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.


ويتزامن معه، مولد حفيده الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام.


وبهذه المناسبة، أهديكم هذا المقتطف البسيط:


اضغط هنا للحصول عليه

23 فبراير 2010

الجلسة الثانية: نهاية الاستجواب

ما هو الطول وما هو العرض؟
حين نرى مجسمًا للكرة الأرضية، نشاهد خطوطًا طولية وأخرى عرضية تغطي جميع المناطق، بحيث لو أردنا الوصول لمنطقة ما فإن مطابقة رقم خط الطول مع رقم خط العرض سيوصلنا لها. الطول والعرض اللذان أتحدث عنهما هنا، مشتركان في اللفظ ومتشابهان في العمل الذي هو الوصول إلى الغاية، لكن يختلفان بالمعنى.
.
فما معناهما إذًا؟
يحمل العرفانيون معنى (العرض) على المعيّة، ومعنى (الطول) على التقدم[1]، وإذا أضفنا الصفة اللاحقة لكل منهما سيصبح معنى (الطول الغيبي) بأنه الإمداد، أو التأييد، أو المشيئة الإلهية، ومعنى (العرض المادي) بأنه كل ما يختص بأفعال، وسلوكيات، وأعمال، ودوافع الإنسان وبواعثه.
.
هلاّ فصّلت في العرض المادي؟
برأيي، العرض المادي هو كل المجهود الذي ينبثق من الإنسان في سبيل الوصول، أو تحقيق، غاية ما، بما في ذلك متعلقات هذا الوصول كرغباته، أمنياته، طبائعه، صفاته، ولأنها ترتبط به جميعها، فهي محمولة (مع بعضها البعض) ضمن ما يشكل ماديته، أي وجوده المحسوس، ولذا أطلق على العرض بأنه المعية، أي ما يحمل معه جميع ما يشكل الوجود المادي للإنسان.
.
وما هو الطول الغيبي؟
تكاد تتفق جميع الفلسفات الروحانية والأخلاقية والدينية، طبعًا باستثناء الحسية والتجريبية، على أنّ هذا العالم تشكل جميع الموجودات فيه نظامًا متلائمًا ومتسلسلاً، بحيث لو تأثرت احدى قطع هذه السلسلة، فإن الإختلال سيكون من نصيب العالم ككل، ومنها انبثقت نظرية تأثير الفراشة[2].
هذا التناغم في العالم، يدفع إلى الإيمان بمفهوم الغيب، ما سمّاه كانط بـ«الخطة السرية» التي تقود البشرية رغمًا عنها، ولأنه يعني التقدم فهو يأتي بمعنى الإمداد، أو المشيئة الإلهية في تتويج الفعل المادي لتحقيق ما يصبو إليه لحكمة ما، ومقتضى هذه الحكمة وإن كان يظهر بأنه داعم لـ اللا أخلاقيات، إلا أنه يقود في النهاية لنتيجة أخرى.
.
كيف ذلك؟
في رؤيته للتاريخ، يرى كانط، أن «الطبيعة» قد وضعت قابليّات معينة في البشر وضمنت تحقيق تلك القابليات عن طريق تلك الميول التي يراها بالمجمل تنافسية لا اجتماعية، ولا اخلاقية[3].
.
وما الهدف من ذلك؟
الهدف من ذلك، كما يراه، هو منع الجمود عن المجتمع البشري من خلال الصراع، الذي يؤدي بدوره إلى تحقيق المسيرة التاريخية في تطور البشرية حتى الوصول إلى العالم الأخلاقي التام.
.
هل من مزيد من التفصيل؟
يمكن أن يُقال، بكلمات أخرى، أنّ الإنسان الخيّر بكل كيانه المادي، والشرير بكيانه المادي يلعبان دورًا مهمًا في التنافس والصراع[4]، لنصل إلى نتيجة محققة وهي أن الخير دائمًا ينتصر، وإذا استمرت مسيرة البشرية في تأكيد هذه الحقيقة فإن المساوئ تقل حقبة بعد أخرى، حتى نصل إلى العالم المثالي، العالم الموعود في «نهاية الزمان». فوجود الخير مساوق لوجود الشر وذلك لتأكيد حقيقة أن معرفتنا بالشر تؤدي بالضرورة إلى المعرفة بالخير.
.
وهل هذا يبرر وصول من تصفهم باللصوص إلى مثل هذه المراتب؟
عِبر التاريخ كثيرة، وأكثر من أن تحصى في بيان مصير الطغاة، وموقف البشرية منهم، وأن كل ما يحوزونه يتحول في النهاية إلى لعنات تلاحقهم تجبر البشرية على تفادي وجودهم مستقبلاً.
هؤلاء، اللصوص أو ما شئت فسمّهم، يعتقدون أنهم يسيرون بمقتضى خطة وضعوها، بينما هم الحقيقة كما في التراث الهندوسي: دمى تحركها «الطبيعة» لتحقيق خطة وضعتها.
.
هل لك أن تلخص بعد هذا، علاقة الطول الغيبي بالعرض المادي؟
باختصار مخلٍّ أستطيع القول: أن الطول الغيبي والعرض المادي مثل خطوط الطول والعرض على الخرائط، متى ما إلتقيا في نقطة أعطانا إحداثيات، استطعنا الإستدلال للنقطة من خلالها وإيجادها، إنما الهدف هنا ليس «مكانًا» بل «قيمة بشرية» مما يضفي عمقًا إضافيًا هو:الغاية.
بمعنى أن من له قابلية أن يشكل «قيمة لا أخلاقية» بأفعاله يتم إمداده ليستمر في طغيانه ليشكل طرفًا مضادًا لمن يمثل «القيمة الأخلاقية». فالوجود الشرير إلتقى فيه الخطان فأوجداه، والوجود الخيّر نفس الأمر، إنما الغاية من كل منهما تختلف، فالطول والعرض العاديين يبحثان في جماد، والغيبي والمادي متعلقان بكائن حيّ.
.
وما هو محل الحظ في هذا الأمر؟
حين قال تعالى «وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم» فإحدى التوجيهات هي أن الله سبحانه وتعالى أعطى لصاحبه خير الدنيا، واستغله صاحبه للحصول على خير الآخرة فكان مثالاً خيّرًا، وهذا هو المحظوظ. بينما خسر الآخر ذلك، وأضحى مثالاً للخسة والدناءة بسبب ضعف مطلوبيته، وسوء قرارته.
فالحظ ليس مخلوقًا خرافيًا يعمل بلا أسباب، إنما هو «تمامية الأسباب».
.
هل لك أن توضح؟
حين ذكرت الحديث سابقًا عن جنود العقل والجهل[5] أردت أن أُوصل نقطة مهمة، وهي أن التخلص من جنود الجهل يؤدي إلى «الدرجات العُليا» التي خلدت الأنبياء والأوصياء، بينما التمسك بها يؤدي إلى النزول في دركات السوء، ومن يعتقد أنه بممارساته الدنيئة، وتمريره ذلك تحت غطاء من الشعارات البراقة هو فوز فهو قطعًا مخطئ.
.
عفوًا، ولكن بماذا تفسر نجاحه في الحصول على ما فشل به الآخرون الخيّرون؟
أفسره بأنه لم يستوعب أن نجاحه لا يعود إلى ما قام به فقط بل يعود إلى أنه يؤدي دورًا لا يشعر به، فهو قطعة شطرنج بحماقته يشكل جزءًا من سجل البشرية المملوء بالحماقات التي تدفع في النهاية إلى البحث عن النظام الأمثل الذي يمنع أمثال هؤلاء من الاستمرار في طغيانهم.
إن النجاح الحقيقي، والتوفيق الواقعي هو الذي يجعل صاحبه علامة فارقة، وكلما تمسك بجنود العقل وصل لها من باب «عبدي أطعني تكن مثلي..»
.
وما علاقة آية «إنك لن تخرق الأرض ..» بالموضوع؟
علاقتها غاية في الأهمية، فهي توضح أن الإنسان بذاته ضعيف جدًا وليس باستطاعته تحقيق شيء دون الطول الغيبي، وهو له طريقين: الأول، أن تكون خيّرًا في الحقيقة، والثاني، أن تكون سيئًا .. وكما أثبتها سجل البشر فإن العاقبة للمتقين.

.....

كلمة أخيرة:
عدة سنوات الآن، وأنا أطلع على كلمات وآراء وأقوال الكثير من الفلاسفة والعلماء ومعظم نظرياتهم كما هي آراء كانط أعلاه، أرى لها وجودًا واضحًا في الروايات والحقائق القرآنية، وقد توصلت ببحث قاصر وبجهد ضعيف متواضع إلى الكثير من التطابقات التي تثبت عظم بضاعة ما لقيت، وضعف بضاعة أولئك، ولكن يحز في نفسي أن أرى التعظيم لآراء كانط، وحين اذكر رواية للإمام الصادق عليه السلام أعمق منها فكرًا وأفضل قولاً تتقاذفني أمواج الإتهامات!
فتأمل رعاك الله، بهذه المفارقة، وفي النفس أكثر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!


________________
[1] من الخلق إلى الحق، ص68.
[2] Butterfly effect لـ Philip Merilees
[3] أوراق في علم التأريخ، ص126.
[4] «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ»قرآن كريم
[5] راجع: إنك لن تخرق الأرض.