يقول محدثي : حملت بداية الثمانينات أقوى الهزات ، بداية من أحداث استبعاد بني صدر ثم اغتيال ثاني رئيس جمهورية منتخب و هو محمد علي رجائي إلى اغتيال " فيلسوف الثورة " الذي كان يسميه السيد الخميني ( ابني ، و ثمرة حياتي ) و هو الشهيد الدكتور مرتضى مطهري ، و تبع ذلك اندلاع الحرب المفروضة ، ثم اغتيال 72 من رجال الثورة و مفكريها في عملية تفجير مقر الحزب الجمهوري ، كل هذه الأحداث في ظل الإنفلات الأمني بعد انهيار نظام الشاه قبل أن يستلم آية الله خلخالي ملف الامن هناك ، دفع الكثير من الوجوه في الصف الثاني و الثالث إلى المقدمة لسد الفراغ الحاصل ، و كانوا دائما يأتون لزيارته و يسألونه النصيحة و الإرشاد و يكرر عليهم نفس الحديث السابق بدون تفريق بين كبير أو صغير ، هنا أردف محدثي مبتسمًا : كنّا نظن أنه بحديثه هذا لهم ، يعبر عن رغبته في ابعادهم أو أنهم لا يرى فيهم القدرة على أداء العمل و المهام المطلوبة منهم كما كان المفقودين ، لذلك يطالبهم بمعرفة الأحكام العبادية ..
و لكن ...
مع بداية الحرب تحولت حسينية جمران إلى قبلة الصحافيين و السياسيين في العالم ، و خطب السيد فيها كانت تذاع لكل دول العالم ، و في أوج الحرب كان السيد يتكلم عن العرفان عند الإمام علي (ع) ، أو عن دروس عاشوراء الحسين (ع) ، أو عن المفاهيم الأخلاقية و الإسلامية ، و طريقة إدارة المجتمع الإسلامي .. كانت خرمشهر تحتل ، ثم يتم احتلال الفاو و يصل الجنود لمشارف البصرة ، و المعارك الطاحنة في خانقين مستمرة ، و حديثه السياسي في خطبه لا يأخذ نفس الحيز الذي كانت تأخذه المفاهيم الإسلامية و الأخلاقية ، لم نكن نعلم كيف نفسر هذا الأمر سوى بأن السيد منذ بداية دراسته و حياته كانت له اهتمامات عرفانية و فلسفية ، و أن مكانته كمرجع ديني لا تزال هي المسيطرة رغم أنه قائد لثورة ، و زعيم روحي لدولة الآن .
.
كل هذا الأمر ، تهاوى أمام أعيننا بعد هذه السنوات ، كل هذه الاستنتاجات كانت خاطئة ، و بعيدة عن الهدف الحقيقي ، لأننا وضعنا فكرة برأسنا و أخذتنا سكرة انتصار الثورة و قدرة الشباب على التغيير فأدارت أبصرنا عن المقصد الحقيقي له ، يُقال بأن الأشياء لا تُعرف حقيقتها إلا عند التجربة ، فليس كل ما يلمع ذهبًا .. و أنا اليوم كما الكثير غيري ممن عاصر تلك المرحلة عرفنا قيمة تلك الكلمات ، بتجرد بعيدا عن الصور النمطية و الأفكار المسبقة التي كانت تقودنا لمثل تلك الاستنتاجات .
.
و استشهادًا يذكر محدثي حادثة حصلت على نهايات الحرب العراقية - الإيرانية ، حين خرجت إحدى الشخصيات الكبيرة في الدولة و ذات منصب رفيع في مقابلة تلفيزيونية ، و حدث أن تم سؤاله عن مسألة " سلمان رشدي " فأجاب : إن هذه المسألة ترجع لما يراه الفقيه .
لم تمض على هذه المقابلة ساعات حتى ظهر بيان للسيد ينفي هذا الأمر و يؤكد أن هذه المسالة من الثوابت و ليس للفقيه مسألة التشخيص بحسب المصلحة ، فهناك أشياء لا يتم الحكم عليها بناءً على المصلحة .
.
- إذن يا " سفيد " ، ما هي المسألة ؟
أجاب محدثي : كما كل شيء في هذه الدنيا ، أي انتصار لابد و أن يعني أن هناك مركز قوة ، و مركز القوة هذا مثل " اللمبة " توفر مكانا مضيئا للناس ، و مدفئا للفراشات ، و مكانًا للحشرات من مختلف الأطياف ، لقد كان هدفه من كلامه ان يشير إلى حاجة العالم إلى ( الأخلاق ) ، إلى المفاهيم الأخلاقية السليمة ، هذه المفاهيم التي تناساها العالم و يحمل رايتها الآن بابا الفاتيكان و يُطالب بها ، و للأسف أنها منّا و ابنة ثقافتنا و أخذها غيرنا !
لقد كان يشير إلى أن هناك مرتكزات و أساسات لابد من معرفتها و الإلتزام بها ، هذه المرتكزات ليست في محل مساومة أو قابلة لأن تؤخذ بحسب المصلحة ، متى ما أردنا لبسناها و متى ما شئنا خلعناها كأنها " دشداشة " ..
ما يميّز الإنسان ليس مظهره الخارجي ، و لا حسبه و لا نسبه ، فكلنا نملك نفس الملامح على اختلاف أشكالها ، كلنا لدينا أنوف و أعين و أيدي و أرجل ، تؤدي نفس المهمة و تختلف أشكالها ، لكنها بالنهاية مشتركة بين كل البشر ، و لكن ما يميز أحدًا عن الآخر هو فكره ، و منطقه ، و مدى إلتزامه بالأطر التي يختارها لنفسه ..
اخلاصك لفكرتك ، تعني ضرورة معرفتك بها ، و العمل فيها حتى تصبغك ، بحيث تكون مثالا حيًا عليها ..
هذا كان مقصد السيد من تلك الكلمات ، لا يجدر بمن يعلن أنه يناصر ثورة إسلامية أو يعتبر نفسه منتميا لخط إسلامي أن يكتفي بلحية مهذبة و خاتم عقيق و السلام ... أبدًا ، فالمظهر مجرد شكل خارجي ، إنما المهم هو الباطن ، المهم هو معرفة حدودك و معرفة حقيقة ما تؤمن به و تقوم فيه ، لا تظن أن الناس سيؤمنون بشيء و هم يرون المنتمين له لا يعرفون أبسط أحكامه الأخلاقية و العبادية أو لا يلتزمون بها ، و لا تظن أنّ الناس على استعداد لدعم و تأييد ثورة أو حركة أو فكرة لا يقوم الداعين لها بالإلتزام بمبادئها ، لو عرف كل شخص ما هو عليه و ما هو له لما أصبحت هناك حاجة للإرشاد في كل لحظة و حين ، لأنه حينها سيقوم كل شخص بما هو مطلوبٌ منه .. و الكلام ينسحب لكل الأفكار الأخرى علمانية / ليبرالية / اشتراكية .. إلخ .
.
- هل هذا كل شيء ؟
.
أكمل محدثي قائلا : ليس هناك مخلوق ، و بالتالي إنسان ليس عليه تكليف أو واجب ، هذا التكليف يقوده لهدف .. هناك أشخاص يبررون كل الوسائل للوصول لهذا الهدف ، و هناك أشخاص يفضلون أن يصلوا لهذا الهدف بنقاء ، بصفاء ، من خلال فكر يعتقدون به ، لأنهم يظنون أن هذا الهدف هو مقدمة لأمر آخر ، فمن يصل لهدفه بقذارة سيلوث نفسه و سيصبغ أهدافه بتلوثه ، بينما من يصل له بصفائه ، فإنه سيحافظ على نقاء هدفه و مسيرته .
لقد علم السيد أن الثورة التي حدثت و جلبت تلك السلطة ستكون مغرية للكثيرين ، داخل إيران و خارجها ، لذلك ركز على معرفة احكام الإسلام و على مفاهيم الأخلاق ، لأنه أراد أن تستمر المسيرة أو أن تستنسخ بنفس الفكرة النقية التي دعت لها الثورة ، لقد أراد أن يُعرّف الكل بضرورة معرفة ما يدعونا له الإسلام في العمل ، و إلى المدى المسموح فيه بالإسلام .. لم تكن نصائحه ابعادا له لهؤلاء ، و لكن كانت محاولة لجعلهم يدركون أن هذه الثورة ليست بدعة أو أنها نتاج تحرك شخصي ، بل إنها فكرة إسلامية و لكن لها حدود شرعية لا يجب تخطيها ، هناك احترام للنفس الإنسانية ، و هناك أخلاق لا يجب أن يتم التعدي عليها .. ليست البندقية هي الهدف ، و لا السلاح هو المبتغى ، بل هو الإنسان .. الإنسان بذاته هو المطلب .
.
ليس مطلوبًا أن أسمي بلادي " ثورية " ، أو أن أجعلها " إسلامية " ، أو " علمانية " .. المطلوب هو أن أجعلها أخلاقية .. و الأهم هو أن أعرف أنّ هذا هو المطلوب مني !
.
هنا اضطر محدثي أن يتجاوب مع أحد زملائه المقربين الذي أتى له و تحدث معه في بعض المسائل الأخرى .. و لكن بقيت كلماته ترن في أذني ، لأنها حملت لي معنى آخر ، و وجهة نظر مغايرة لكثير من الأشياء التي كنت أؤمن بها ، فهي كلمات جعلتني أعيد التفكير مرارا و مرارا ..
.
و للحديث بقيـة إن شاء الله ..
هناك 15 تعليقًا:
أولا يعطيك ألف عافية على البوست الشيق
"..ليس مطلوبًا أن أسمي بلادي " ثورية " ، أو أن أجعلها " إسلامية " ، أو " علمانية " .. المطلوب هو أن أجعلها أخلاقية .. و الأهم هو أنّ هذا هو المطلوب مني !"
شهد الله سبحانه وتعالى لرسوله بالخلق العظيم ... مما يدل على أهمية وعظمة هذه الصفة في الإسلام وفي العلاقات الإنسانية.. ودلل عليها في قصص جميع الأنبياء (ع)
عمل لهذا الهدف وبه الأنبياء والمرسلين ومن ثم رسول الله (ص) والأئمة (ع) من بعده.. به نشروا الإسلام وبه كسبوا الناس من كل الأديان وبه تعاملوا وبه إتسمت سياستهم ... والأهم أن هذا الخلق هو ما أكسبهم مكانتهم عند الله جل وعلا
مبدأ سهل , واضح وجلي للكل
ولكن التطبيق الفعلي..... .. يا حسرة
رحمة الله على السيد لم ينادي به لفظيا بل كان يمارسه عمليا .. فلولا خلقه لما كسب مودة وحب جيرانه الفرنسيين في توفل لو شاتوه في ضواحي باريس.
لو كل إنسان يتجاهل فكره المسبق للحظة ويقرأ نبذة عن حياته لأكتشف فكره العظيم الذي أساء إليه نتاج الثورة من غايات وأهداف شخصية وسياسية خاطئة نسبت إليه..
الشخص لا يتسم بالخلق السامي لمجرد حديثه عنه أو مناداته له. بل في ممارسته الحقة في كل نواحي حياته
فلننظر إلى من نختار لنتبعه, لنسمعه أو نتعلم منه ...ومن نختاره ليمثلنا
ملاحظة: لست من مقلديه حتى لا أتهم بالتعصب :)ولكن من المعجبين بشخصه
الكلام كثير كثير كثير في هذا الموضوع وقد أخذت من مجال التعليق أكثر من حقي.
فأرجو المعذرة
في إنتظار البوست القادم
ونحن لك من المتابعين
:)
جميل...
متابع...
"..ليس مطلوبًا أن أسمي بلادي " ثورية " ، أو أن أجعلها " إسلامية " ، أو " علمانية " .. المطلوب هو أن أجعلها أخلاقية .. و الأهم هو أنّ هذا هو المطلوب مني !"
انا بالنسبه لي الاخلاق كل شي بالدنيا وشي اساسي قبل كل شي
لكن وين الناس الي تسمع وتطبق ؟؟
وبانتظار البقيه
متابعه :)
شخصية لا ننتهي بالتحث عنها
وايضا هناك المزيد
بالانتظار
هم أنا نفس صلاح :)
مكارم الأخلاق تميز الحضارات.
فرق بأن تمتنع عن فعل لأنك تعتقد بأنه مخالف للأخلاق، و بين الإمتناع عن فعله خوفاً من عقاب.
تحياتي لك، و لمحدثك
:)
يقول عليه الصلاة والسلام :
عليكم بمكارم الأخلاق، فإن الله عزَّ وجلّ بعثني بها.
ما سطرته من سيرة جميل و شيق .. وبانتظار المزيد ..
اعذرني عللى التأخير
ودمتم بخير وسلام
كلام بقرأه البصر ويحتاج الى بصيرة
زدنا ... بارك الله فيك
متابع ..
أيها المدوّن ..
ما كان يريده السيد شيء وما حصل ويحصل شيء اخر
طلبه كان السهل الممتنع او النموذج الذي من الصعب ان يتحقق
ولو تحقق لكان الحال غير الحال
احسنت على البوست الجميل
Yin ،،
التعقيبات ما عليها جمرك :) ، اخذوا راحتكم ..
.
.
< فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك >
.
.
لماذا سبق اللين ، تأكيد حسن الخلق ؟
.
.
وجهة نظري : ليدل على أن الخلق ملكة عند الإنسان لا يكتسبها إنما يصنعها بنفسه قبل كل شيء ، و ينمي داخله القابلية لها ،مسألة الأخلاق موجودة منذ أرسطو و أفلان و طاليس .. و لكن كم هم الذين التفتوا لها ؟
.
.
شكرا للمرور
Salah ،،
Yang ،،
مروركم الأجمل ..
إن شاء الله تكون الكلمات في محلها :)
manalq8 ،،
makintosh ،،
sowhat ،،
كلام التجارب لا يماثله كلام ..
لأنه نحت بالمعرفة و الاستبصار ..
شكرا لمروركم :)
شرقاوي ،،
هناك مقولة :
كلما ارتفعت المباني ، كلما قلت الأخلاق !
.
.
لماذا كان يلتزم بها الأقدمون رغم امكانهم من الفرار من العقوبة ؟
.
.
لأنها صوت الفطرة ، لا صوت الطباع المكتسبة ..
هناك تراجع أخلاقي رهيب في عالم اليوم ، الأخلاق ليست قول الصدق أو عدم الكذب بل هي مفهوم أعمق من ذلك بكثير .. و للأسف أن يحمل راية المناداة بها اليوم هو : البابا !
،
القائم على إرث عظيم من اللا أخلاقية ، ينادي بها اليوم .. و تصفق له الأيدي لأننا نجهل ما نملك في الحقيقة !
.
.
شكرا لمرورك
الموت يعشق فجأة ،،
شكرا للمرور :)
hussain.m ،،
و تحياتي لك أيضا ،
.
.
فريج سعود ،،
لينين قام بالثورة و تبعه ستالين .. لكن أين ما نادى به ماركس و أين ما قام به لينين ؟
.
هل أمريكا اليوم .. هي حلم " الآباء المؤسسين " ؟
.
فرنسا .. هل هذه هي الصورة النهائية لثورة العدالة و الحرية ؟
.
لا وجود للكمال .. و لكن هناك وجود للمثل .. يكفي أن تحقق 60 % مما ناديت به حتى تنال درجة النجاح ، لأن التفوق لم يحن زمانه حتى الآن !
إرسال تعليق