.
" إننا نشهد منذ سنوات ، تدهور حال هذه القرية . و أعتقد ، في الوقت الحاضر ، أن ذلك ليس نتيجة عقاب إلهي ، لسبب بسيط هو أننا نقبل ، باستمرار ، ما أعطي لنا دون أن نطلب ، و كأننا كنّا نستحق أن نفقد المكان الذي نسكن فيه ، و الأرض التي نزرعها ، و المنازل المبنية بأحلام أجدادنا . أخبروني ، يا إخواني ، أما حان الوقت لكي نتمرد ؟ "
الكاهن ، رواية: الشيطان و الآنسة بريم .
كان بنيتي أن أختم حديثي بالجزء الثاني ، بعد أن أنقل كلام محدثي و أدع الباقي لعقولكم لتستخلص منه المعاني المطلوبة و ما أكثرها في الحقيقة ، و لكن ضجة حدثت مؤخرا دفعتني إلى أن أشارك لعل رسالة محدثي تصل و لو قليلا .
أشار كلام محدثي السابق إلى إشكالية غابت و لا تزال غائبة عن أذهان الكثيرين ، عن مفهومية الأخلاق ، و دورها في تكوين الإنسان أو تحقيق المجتمعات ، ذهب فلاسفة الإغريق إلى أنّ الإنسان هو القطب الأوحد ، و هذا ما أشار له الفلاسفة الوجوديون ( و أظن أن الكلمة لـ هيدغر ) بـ أن الإنسان هو الوجود المحض ، و ليس هناك من يختلف مع هذا الكلام بصورته العامة ، إلا أنّ في تفصيلاته خلافات كثيرة ، فلا مجتمع بلا إنسان و لا دولة بلا مجتمع ! و على ذلك قس ، فالإنسان هو حجر الزاوية ، و بلاه لا يكون هناك بناء ، و الطريف في الأمثال أن حجر الزاوية دائمًا يكون هو الحجر الذي يستبعده البناؤون قبل أن يستشعروا أهميته !
.
لم يكن الهدف من " الثورة " في كلام محدثي هو الإنقلاب على الشاه فقط أو تكوين حكومة إسلامية بقدر ما كان الهدف الأساسي هو إعادة احياء المجتمع الذي دمره الشاه ، إعادة بث القيم السليمة و على رأسها مفاهيم العدالة التي غابت ، و إعادة تكوين المبادئ التي حاول الشاه أن يطمسها ، ليست غاية الدين دولة بالأصل و لكن غايته ( العدل ) التي هي وليدة الحرية و كلاهما محدودان بالإنسان.
قبل أسابيع قليلة قامت ضجة كبيرة في الولايات المتحدة لأن شركة مطاعم " ماكدونالدز " دفعت ما يقارب 20 ألف دولار كدعم لهيئة تدعم الشذوذ ، جون ستيوارت قام بالسخرية من هذا الفعل ، و بنفس الوقت المجتمع تحرك و أعلن رفضه ، لم يكتف بالسخرية أو الضحك أو وضع رجلا على رجل و قال : ما هكذا الظن بك يا ماكدونالدز !
و على نفس المنوال ، حدث ما حدث مع حدس و استقبالهم للسفيرة الأمريكية [ و هذا مجرّد مثال ]، فتحول جميع الكويتيين إلى نسخ كربونية مكررة ، إما صامتة أو مستهزأة .. لم يتجرأ أحد و يناقش الأسباب في حقيقتها ، كما لم يغص أحد لمعرفة حقيقة ( الفعل الأخلاقي ) * عند هؤلاء ، اكتفوا بكلمات على المدونات ، و اكتفوا بالاستهزاء ، و كأنهم كانوا بانتظار شيء يفرغون فيهم طاقاتهم، فعل حدس لا يختلف عن فعل ماكدونالدز فكلاهما خالف أخلاقيات المجتمع ، تلك الاخلاقيات التي يدعون إليها و يعتبرون أنفسهم مساهمين فيها و في تثبيتها ، تحول المجتمع الكويتي كله إلى جون ستيوارت ، و اكتفى بذلك .
.
من السهل علينا دائمًا أن ننتقد ، لأن الحديث هو أسهل ما يمكن للإنسان أن يفعله ، و لكن ( الإلتزام ) صعب لذلك هو مهمل و لا محل له عندهم ، نطالب بالتغيير و نكره أن نتغير ، و ننادي بالإصلاح و لا نحب أن نتحرك في سبيله ، مجتمعنا اليوم ميّت أخلاقيًا ، و لا حراك فيه !
الأخلاق ليست " الأمانة " ، أو " عدم الكذب " أو حتى " الإخلاص " فقط ، الأخلاق مفهوم أشمل و أوسع من هذا كله ، هي أعراف و أحكام و إلزامات اختارها المجتمع لكي يضبط فيها مساره ، و يحيط نفسه بإطارها ، هي أعمق من مجرد إحساس داخلي لأنّ المطلوب منها أن تكون فكرًا جمعيًا يربط الناس و يؤمنون بضرورة الحفاظ عليها .
.
نحن مجتمع يقوم على " رد الفعل " ، و لا يعرف للفعل مكانا ، لم يتعب أحد نفسه في يوم من الأيام أن يتحرك لصالح المجتمع العام ، بل ينتظر من غيره أن يفعل لكي يلحق به هو ، حتى على مستوى النقد الذي هو بذاته حالة صحية طالما أنه يفتح الباب لتحديد مكمن الخلل و إصلاحه ، لا أن يفتح الباب ليشير للخطأ حتى ( نضغطه ) !
أصبح النقد مجرد حالة " تنفيس " عن الإحتقان و سكتنا عن التصحيح ، و اكتفينا بالمطالبة به .
.
لا أدعو لإنقلاب أو ثورة أو مظاهرات أو عصيان فهذه أشياء انتهت و انقضت، لأنّ هذا الزمن هو زمن معرفة حقيقة المجتمعات فهي المُصلحة ، أدعو لما قاله المهاتما غاندي عندما سأله أحدهم : ماذا نفعل لكي نغير واقع الهند الإستعماري ؟
فأجاب : يجب ان تكون انت التغيير الذي تريد ان تراه في العالم .
.
نشتكي من الظلم ، و لا نرى الظلم في أنفسنا ، و نلطم بسبب السرقات و لا نرى تبريرنا لها و سكوتنا عنها ، و نبكي على فقدان الرغبة بالإصلاح و لا نبحث عنها في داخلنا ، فلا نستغرب بعد ذلك من هذا الجمود ، هذا المجتمع مكون مني و منك و من غيرنا ، و لكن لأننا شعب قتلنا الترف الفكري أصبحنا نطالب الآخرين أن يتحلوا بما نفقده و نغضب إذا لم يفعلوا ذلك .
0
لماذا أنا مختلف ؟
.
لأنني قررت أن أكون التغيير الذي أود أراه ، و أبدأه بنفسي ، أن أكون مختلفـًا عن النسخ الكربونية التي تتعاطى مع الوضع في الكويت ، لا أريد أن أضع صورة الناشي و السفيرة و أكتفي بالتعليقات فغيري كفاني هذا الامر لماذا أكرره عندي ؟
.
إسحاق نيوتن سقطت التفاحة على رأسه ، كان بإمكانه أن يعتبرها هدية من السماء ثم يأكلها ، و لكنه بدلاً عن ذلك تساءل عن سبب سقوطها ؟
لقد بنى عظمته لأنه راى شيئًا بسيطا يحدث يوميا لآلاف المزارعين ، و لكن أيًا من هؤلاء المزارعين لم يمعن النظر في هذا الشيء البسيط ليتساءل مع نفسه عن سبب سقوط التفاحة لأسفل بدلا من طيرانها لأعلى كما فعل نيوتن .
لا أود أن أكون ردة فعل ، بل أن أكون فعلاً يطبق ما يؤمن على نفسه أولاً ، لا يدعو لعدالة لا يعرفها مع نفسه ، و لا يدعو لحرية يمنعها على غيره .
.
هذا هو ملخص الحديث و هذا ما أراد محدثي أن يدير بصري إليه أن الإنسان بكونه إنسان بحاجة أن ينظر لداخل نفسه أولاً ، و أن يعرف حدوده و إلتزاماته ، أن يحدد أخلاقياته و يؤطر نفسه بها ، الاخلاقيات التي تسمح له و لمجتمعه أن يحافظ على حياته و حراكه بها ، بدلاً أن يكتفي بالموت البطيء و هو ينتظر زلة غيره ليضحك عليها ، مكتفيا بذلك فقط.
انتهى .
________________________________
* عند علماء الأخلاق في الإسلام ، هناك تفريق ما بين الأخلاق
و ما بين الفعل المرتبط بهذه الأخلاق .
و سأحاول بيان معناها في موضوع آخر إن شاء الله .
هناك 11 تعليقًا:
كلامك صحيح وأوافقه 95% لكني لا زلت أؤمن بأن الإنتقاد الصحيح والتحلطم بنية صادقة تجاه تطوير البلد وإنتشالها مما هي فيه
له دور كبير في توعية شريحة كبيرة من المجتمع... ممن لم يكن يعلم بخوافي الأمور
ولا تحسبه إعتراض على كلامك بل بالعكس يجب أن ينتج عن هذا التنفيس عمل بناء وصادق ... ناتج حركي إيجابي
وأنا معك في كل ما قلته
يجب أن نوقف ال reactivity
ونصبح مجتمع proactive
أحسنت وأبدعت يا سفيد
الكلام كثير ولكن بعد إبداعك قررت أن ألتزم الصمت.. أحببت فقط أن أبدي
رأيي بخصوص الإنتقاد
أحسنت على هذا الحديث الشيق..
قلت أن الأخلاق هي أعراف وأحكام والتزامات اختارها المجتمع...
السؤال هو اذا كان المجتمع بدائي ولم يختار لنفسه أي أحكام ولا يريد أن يلتزم بأي شيء، ما هي قيمة المجهود الذي يبذله الفرد في هذه الحالة؟
تحياتي
Yin ،،
الإنتقاد و النقد أمر صحي و يدل على حيوية و حركة إذا كان لهدف ، أما إذا لمجرد " النقد " و بعدين نبلع السالفة و كأنّ شي ما صار .. فهذا يدل على شيء واحد : أن المجتمع ميت و عاجز لدرجة أنه يحول سلبياته إلى اداة سخرية ليخفف آلامها لا ليقضي عليها .
" التوعية " لها هدف .. و عندنا تحولت لمجرد شعار لتبرير " الضغاط " ... و بس :)
Salah ،،
أي مجتمع أو تجمع إنساني يمتلك أعراف و تقاليد تحدد علاقة كل أفراده بعضهم البعض ، و علاقة المجتمع كشيء " كلي " بغيره من المجتمعات .. مهما كان هذا المجتمع بدائيا بنظرنا نحن ، لأن الإنسان لا يمكن أن يعيش بمجموعات بدون توافق ما بين مكونات هذه المجموعات .
.
.
بعد ذلك تأتي النقطة التي هي مدار الخلاف .. هل هذه الأعراف يحكم عليها بالسلب و الإيجاب من خلال الاستحسان و الاستقباح العقلي ، أم من خلال الانتخاب الاجتماعي ، أم من خلال الشرائع السماوية أو الدينية الأخرى ؟
هذا الموضوع لا زال في محل خلاف ، و لكن المؤكد أن هناك قيم مشتركة بين كل البشر على اختلافاتهم و هذه القيم تمثل عصارة التقاليد المعتمدة على الفطرة .
.
.
ما قيمة مجهود الفرد ؟
كل الرسالات السماوية التي بعث الله عز وجل لها الأنبياء قامت أولا على احياء الأخلاق و المناداة بها .. متى ما تم احيائها عاشت تلك المجتمعات و صعدت .. و متى ما خمدت هبطت إلى دركها الأسفل كما كانت ، فهناك مخزون اخلاقي في هذه الأمم ، يعتبر هو محركها الأول ..
هي ليست بحاجة لأكثر " ايقاظ " في النفوس .
لو كل شخص إلتزم بما هو مطلوب و أدى ما عليه لم تعد هناك حاجة لاعادة التأكيد على هذه القيم ، و لامتد تأثيره كما امتد تأثير العشرات في التاريخ البشري ممن امتلكوا هذه الخاصية و الكاريزما الخاصة بها .
.
.
الفرد ليس شيئًا بسيطا .. متى ما ادرك ذلك .. فتاريخ البشرية كله قائم على رغبات فرد في زمن من الأزمان .
الصراحه ماكو كلام عقب كلامك :|
وكل الي قلته صح
لازم التغيير يكون بالشخص نفسه قبل لا يطلبه من غيره وكلامك ذكرني بالانتخابات
الشعب يختار وبعدين ينتقد يعني لو كان مغير من تفكيره الطائفي والقبلي ومختار الاصلح والافضل راح يكون النقد اقل نوعا ما
اذا كل فرد غير من نفسه نحو الافضل اكيد المجتمع بكون احسن
اتفق معك ..
وصحيح أن زمن الانقلابات والعصيان والتمرد ولىّ !! لكن ليس في الدول العربية التي لازالت تعيش وفق أنظمة وفكر وثقافة العصور الوسطى ..!!
صدام وحزب البعث السوري والقمع في الجزائر وتونس وحكم حسني مبارك الجمهوري بالوراثة !!والأحداث الدامية في لبنان والتخلف الفكري في السعودية ماذا تسميها ؟!
فلا ينفع معها الاّ العصيان والتمرد , أسوة بأوروبا التى حاربت التخلف والقمع في القرون الوسطى وأدى بها الى خلق نظام علماني عادل ومتحضّر!
تسلم ..
مهاماتا غاندي وما ادراك ما غاندي..
غاندي لم يغير الواقع الاستعماري للهند فقط غاندي حطم عادات واعراف راسخه في
بعض المناطق بالهند مثل ال sati
في كل دوله يظهر عبقري ثائر يصلح الاوضاع المقلوبه ..
عندنا الشعب اغلبه بس يتحلطم ..وفي كل مكان..... زين الى متي ؟! وبعدين ؟
تعقيب على كلام الاستاذ ين
من خلال بحث عملته على مجتمعنا التعيس المجتمع يتحول من
reactivity
ويصبح proactive
بعد الازمات والمصايب فقط لاغير تالي يرد على وضعه الاول..وعلى فكره هذا التحول امر طبيعي لكن بالغرب التحول يظل مستمر الا عندنايكون مؤقت ..
Makintosh ،،
لو كل فرد وعى بحقيقة قدراته الذاتية لما كان هذا ذاتنا .. كلهم يقرؤون ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ) ، ثم يقبلون القرآن و يحطونه على الرف ... و كان الآية نزلت لتوضح المنهج للملائكة .. لا لهم !
the lazy bears ،،
لماذا نعيد دموية أوروبا ؟
الماجنا كرتا وقعت في 1213 .. و استقرت الديمقراطية في بريطانيا قبل 200 سنة أو 300 .. لماذا لا يمكننا ان نختصر 500 سنة من الدموية و نأخذ النتيجة النهائية ؟
هل ترى أن مجتمعات عاجزة ان تغير واقعها ، أو أن تساهم في اصلاحه و لو على مستوى الفرد قادرة على ان تدير دولة بعد ان تزيح قيادتها ؟
صدقني كلهم راضون بمن يتولى امرهم .. لأنهم يعلمون انه في ظل موت مجتمعاتهم ، متى ما ثاروا و تمردوا فالأسوء بانتظارهم !
.
.
المجتمع الايراني لا يفصلنا عنه سوى مسطح مائي صغير جدا .. قام منذ بداية القرن العشرين باربع ثورات ثورة كوهرشاد على رضا بهلوي و ثورة غابات الشمال عليه ايضا و ثورة مصدق على محمد رضا بهلوي ثم الثورة الاسلامية .. ما الفرق بين قدرتهم على اثبات ان ذواتهم حية ، عن مجتمعاتنا ؟
غير معرف ،،
للأسف سؤالك إجابتي الوحيدة عليه هي :
إلى أن يقضي الله امرًا كان مفعولا !
.
.
و يا حسرة على العباد !
إرسال تعليق