18 سبتمبر 2008

دفنوه ، و ما دفنوه !



كان أول معرض كتاب ينظم في الكويت بعد الغزو العراقي ، لا أذكر بالتحديد في عام 1992 أم 1993 و لكني أذكر تماما أنني كنت في بداية سنواتي الدراسية بالابتدائية ، أظلم القراءة حين أقول إنني كنت أجيدها ، و لكن كنت ( أفك الخط ) و لم يمنعني هذا من شراء أول كتاب في حياتي ، ليس كتابًا بالمعنى العام بل يمكن أن يطلق عليه كتيب و لا زلت أحتفظ فيه ، اشتريته بـ " نص دينار " قيمة مصروفي اليومي من احدى دور النشر المشاركة في المعرض ، اسمه كان ( علي .. قدوة الثائرين ) ، في اليوم الثاني مسكته و بدأت بالقراءة ع..ل..ي ..عل..علي.. , و ارتبط الاسم بوجداني .

قلة في التاريخ الإنساني هم الذين وصلوا لمرتبة الكمال ، و أتكلم هنا عن التقييم البشري لا التقييم الديني فهذا أمرٌ آخر ، فعند بني البشر هناك مقاييس تقيس الكمال وفق منظورهم الدنيوي الذي يأخذ الإنسان ككائن مجرد و يسلط عليه الضوء ، ليحكم عليه بما يحمله من قيم إنسانية ، يتفق كل الناس على شخصيات محددة وصلت للمراتب العُليا هذه ، لا يختلف أحد على " كونفوشيوس " و لا على " سقراط " مثلاً كأشخاص كانوا ذوي رسالة و مفهوم عمَّ البشرية بأجمعها ، و لا يمكن أن نذكر هؤلاء دون أن يمر ذكر ( عـلـي ) معهم ، مع هؤلاء لا تحكم الانتماءات الدينية أو الأصول العرقية أو الأفكار السياسية إنما تحكم الفطرة الإنسانية و القيم السامية التي تضمنتها مبادئهم التي حكمت حياتهم ، حتى غدت مضربًا للمثل في جمع الصفات الكماليّة ، النفسيّة منها و العقلية ، يكتب عنهم المسلم و يبحث في حياتهم المسيحي و يجلهم اليهودي و يستشهد بكلامهم الملحد و العلماني ، لأنهم يعدون في باب ( الإنسانية ) ، إرثًا مشتركا بين كل البشر على اختلاف أطيافهم و مشاربهم ..

نادرًا ما تُحفر في التاريخ أسماء شخصيات لم يخلدها اجرامها، أو ارتباطها بمواقع القوة و النفوذ و استعمالها لها ، أو لانها وقعت في زمن سُلّطت عليه الأضواء ، بل تخلد بسبب ما تضفيه للتراث الإنساني من نقاط مضيئة تجبر العالم أن ينحي احتراما و اجلالا لها ، حتى لو مرت قرون تبقى هذه التعاليم العالية ، لأنه عندها يعلمُ العالم أن هذه الإضاءات ليست وليدة إنسان اعتيادي إنما هي غصنٌ من شجرة الحكمة المتعالية رويت بماء الخبرة و نمت في أوساط العلم و المعرفة ، و لا يكون ذلك إلا عندما تكون هذه الشخصية المثال الأكمل للصفاء و النقاء الذي ينشر عبيره عبر ردهات الزمن.


عندما يؤمن شخصٌ بفكرة ما و يُخلص لها تصبح هذه الفكرة مندكة فيه لا يمكن عندها أن تفرق صفات هذا الفرد و طباعه و حركاته و سكناته عن اطار هذه الفكرة ، هذا الإندكاك ما بين الفكرة و الفرد ، نتيجته العظمة فإن كان معهما الدين فالنتيجة تضيف قيمة التفرّد إلى العظمة ، آمن " فولتير " بالحرية فصارت منهجًا له لا زال التاريخ يذكره بها ، أضحى اسمه مرادفًا لها ،فأنت عندما تعشق " شيئا " فأنت تنتحله ، تتابعه ، تتقمصه ، حتى لا يتم التفريق بينك و بين ما تعشق ، مع هذا يظل النقص مستولٍ عليك في ناحية فهذا من طبيعة البشر ، و لكن الإنسان الكامل هو من ترسخت في نفسه الفضائل حتى أصبحت ملَكةً فيه ، لا تنفك عنه ، هنا تتحدث عن " تعبير الدين " ، عن اعجوزة و اعجوبة هي جوهرة نادرة لأنها عرجت بروحها إلى اعلى المدارج و وصلت لأنقى المسالك.


عندما تحكي عن " كونفوشيوس " أو عن " بوذا " ، تتكلم عن رجال حاولوا رغم زلاتهم ، لم تصل فيهم الفضائل لدرجة " المَلَكة " لأنها فيهم كانت مجرد " حالة " ، كونفوشيوس عقد اتفاقه مع الامبراطور : لكم السياسة و لي الدين ! و بوذا قال لأتباعه : " اليقظة " لمن اتبعني !

و لكن عندما تحكي عن ( علي ) فأنت تتكلم عن شخص دفع حياته ثمنًا لأنه أصبح للبشرية مثال الكمال و تمام الدين ، لأنه بعدله و تقواه و سموّه أصبح حرجًا لنقائص الإنسان ، و لرغباته التي تحركه .. لا زال الإنسان يقتبس من ابليس موقف الاستكبار ، ولا زال يعيد قول ابن آدم لأخيه : لأقتلنك !

لماذا ؟ لأن قربانه لم يتقبل ، و لأنه أسقط ما فيه يده عندما مدّ يده ليقتل أخاه فكان جوابه : لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي إليك لأقتلك .. فكان القتل هو الجواب لأنه شعر بالنقص أمام أخيه ، و لا يسود النقص إلا حين يُزال الكمال .

هناك فرق بين يسمو بروحه ليخلص نفسه بعد ما أعياها الأجل ، و من يسمو بروحه لينصب نفسه على الناس ، و بين من يسمو في نفسه لأنه مقتنع بهذا السمو مؤمنٌ فيه ، ثابت عليه مهما جار عليه الزمن ، و مهما تخطفته الخطوب ، كشجرة غرسها ثابت و فرعها في السماء ينحدر عنها السيل و لا يرقى إليها الطير .




كنت أتساءل ، لماذا وصف النبي الأكرم - صلى الله عليه و آله - قاتل علي بأنه أشقى الآخرين ؟

لماذا فاق بشقاوته كل هؤلاء المجرمين فيما بعده من القرون ، قتل ستالين 50 مليون شخص !
و قتل ابن ملجم شخصًا واحدًا ؟



فكيف يعدل الميزان ؟

و لكني علمت بعد ذلك ..

أنّ الأمم تحيا بحياة رموزها

أن الأمم تستمد بقاءها من عبق رموزها

و أن الأمم لا تكون أمما إلا حين تملك مفاتيح تجمعها .


فلا يكون للنحل مملكة حتى تكون لهم مَـلِكة !


كان ( عليًا ) أمة وُضعت لتكون نبراسًا للأمم ..


عندما يطفئ أحدهم المنارة في يوم عاصف لا يحكم عليه لأنه أطفأها فقط بل يحكم عليه بدماء كل من فقد روحه بسبب اطفائها !


ليست الجريمة في ( كمّها ) ، كما هي في ( كيفها ) .. فهناك من يقتل عشرات من أمة ، و تبقى الأمة في سيرها ، و هناك من يقتل واحد من أمة تضيع بعده ، فلكل أمةٍ ( هاد ) يكون سبيلها " للرشاد " .

.

قدرُ العظماء أن تكون نهاية رحتلهم على يد التعساء ،
ليثبت بني البشر كيف أنهم يحبون وأد الفضائل مرة أخرى على مذبح الرذائل!
قتلوه بالكوفة ، و لكنه لم يقتل فينا .
و دفنوه بظهرها ، و لكنه لم يدفن في نفوسنا ..
فهو باقِ ما دام توق الإنسان للعدالة حاضرا ..
و ما دام تطلع الإنسان نحو الكرامة مستمرًا ..
و تبقى مراقد العظام ، ملهمةً للأنامِ !
.
.

أ ترى النور كيف يشدو
نغمات العشق في كهوف
.. الشتاءْ !
أ ترى البحر كيف يُصْغي
لنواحِ الضعفاءْ !
أ ترى الجبال كيف تبأسُ
قلوب الأقوياءْ !
ذاك هواكَ فـيَّ
.. كمدينة بيضاءْ !
تسمو و تسنو كأن طفلا
يلهو في حديقة غنّاءْ !
كأن نهارًا بات يَمضِي
سابحًا في بحور الصَّفاءْ !
مُنبتًا منازلَ وحيٍ كأنها ..
أعشُبٌ في موحِش..
.. الصَّحراءْ !
كلُّ قولٍ عند مدحِكَ هو
جزءٌ من .. ضياءْ !
كل حرفٍ عند اسمكَ ..
حبة ثرىً في البيداءْ !
كل شِعرٍ دون ذكركَ ..
حنظلٌ وسَط الأنواءْ !
و تبقى الحروف عند ذكرك ..

مقعدةً في.. كنهٍ عَجز عن إدراكهِ
.. الحُكماءْ !
و كلُّ الناسِ نوازِلٌ
.. إن عدوا قبالك .. القرناءْ !




هناك 26 تعليقًا:

Yin مدام يقول...

...............................................................................................................................................................................

بآل محمدٍ عُرف االصواب
وفي أبياتهم نزل الكتاب
وهم حجج الإله على البرايا
بهم وبجدهم لا يستراب
ولا سيما أبا حسنٍ علي
له في الحرب مرتبةٌ تهاب
هو البكَاء في المحراب ليلا
هو الضَحاك إذا أشتد الضراب
عليٌ الدرِ والذهبِ المصفى
وباقي الناس كلِهم تراب


عظم الله أجورنا وأجوركم
تهدمت والله أركان الهدى
وانفصمت العروة الوثقى

Yang يقول...

عظم الله أجورنا وأجوركم

Manal يقول...

عظم الله لكم الاجر على هذا المصاب

غير معرف يقول...

رحم الله أمير المؤمنين أبا الحسن ورضي عنه وكرم وجهه

ابن ملجم خسر خسرانا مبينا

Safeed يقول...

Yin ،، Yang ،، manalq8
أجورنا و أجوركم ..
و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .

مُحَسّدْ،،
" لا جرم انهم في الاخرة هم الاخسرون " هود.

MakintoshQ8 يقول...

الامام علي مهما تكلمنا عنه لن نوفي بحقه
لعن الله عبدالرحمن بن ملجم

عظم الله اجورنا واجوركم

وتقبل الله طاعتك اخوي سفيد

Safeed يقول...

makintosh ،،
سألوا أبو الطيب المتنبي يومًا : كيف تكون شاعرًا في بلاط سيف الدولة الحمداني و شعرك يخلو من مدح الإمام علي (عليه السلام ) ؟
فرد عليهم ببيتين :

وتركت مدحي للوصي تعمداً..إذ كـان نـوراً مستطيلاً شـامـلا


وإذا استطال الشي قام بنفسه .. وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً

.
.
منّا و منكم إن شاء الله ،
و أجورنا و أجوركم .

Salah يقول...

أحسنت يا عزيزي سفيد

عظم الله أجرك

---------

هل الشعر في نهاية المقال مما خطه قلمك المبارك أم منقول؟

AuThoress يقول...

شيء واحد منذ بدأت التدوين يا أخي، استوقفني حقاً، هو "أسلوبك" المختلف في نظم العبارات والسطور..
والآن، تقول بأن عمرك لا يتجاوز الــ 22 وهذا ما يبعث على دهشة/غبطة عظيمتين..ربما قراءتك "النهمة" ما فتحت أمامك أبوباً من معرفــة كبيرة أتمنى بأنك لازلت تنهل منهاالمزيد..

وفقك الله .

secret يقول...

يعطيك العافية على الموضوع و تقبل الله منا و منكم صالح الأعمال

ما شالله عليك ما خليت لي شي اقوله

:)

Safeed يقول...

Salah ،،
و انتم من المحسنين ، و آجرنا الله و إياكم .
.
.
رغم أن الكلمات المسجعة لي ، و لكنّي لست بشاعر .. إنما هي إن صح التعبير " فيوضات المشاعر " .

Safeed يقول...

AuThoress ،،
العبرة في ( الفكرة ) لا في ( العبارة ) ..
طالما أن الفكرة " نقية " فالغرض منها سيصل تشابهت ألفظاها أم اختلفت ..
وفقنا الله و إياكم ..

Safeed يقول...

secret ،،
الله يعافيك ..
مروركم يكفي

غير معرف يقول...

هل انت بوحسين؟

Safeed يقول...

غير معرف ،،
ما عندي عيال :)

Ahmed.K.A يقول...

عظيم هو ما تنقشه يداك على صفحات هذه المدونة اخي الكريم ..

كيف لا و هو يلهج بذكر الوصي (ع) ..

قادني القدر إلى مدونتك المميزة أخي الكريم .. فتقبلني ضيفاً يومياً فيها ..

مأجورين بحق صاحب هذه الليالي ..

ملاحظة : أأنت "الروح المجرد" في منتديات الرضوان ..؟

إن كنت كذلك .. فالمنتدى أعيد فتحه .. حياك :)

غير معرف يقول...

السلام عليكم

اخي العزيز ...

حبيت أسجل حضوري المتواضع في مدونتكم الثراء و أن ادعوا لك ولكل من يزور مدونتك بالعفو والعافية والمغفرة والرحمة ... وان يتقبل الله منا ومنكم و جميع الامة الاسلامية صيامنا وقيامنا و صالح اعمالنا..
و نسأل الله أن يعيد علينا رمضان أعواما عديدة وأزمنة مديدة و أن يقدرنا على صومه وقيامة .

اعذرني اخي الكريم ان لم اتمكن بالمرور في مدونتك او التعليق فيها لضيق الوقت لكني متابعة.. ولنا عودة ان شاءالله بعد رمضان .. كل عام وانتم بخير وعيدكم مبارك

حفظكم الله

ودمتم بخير وسلام

الثائر يقول...

شكرا لزيارة مدونتي و للتعليق ، بس حبيت أقول لك ان عندي بوست جديد أتمنى انك تطلع عليه و في انتظار تعليقك و نقدك ان وجد :)

Safeed يقول...

Ahmed.K.A ،،
أجرنا و أجرك ..
للأسف لم أتشرف بأن اكون " الروح المجرد " .. الذي تابعت قلمه لفترة .. و قلمه يندر مثيله .

Safeed يقول...

الموت يعشق فجأة ،،
تقبل الله أعمالنا و أعمالكم بأفضل القبول و جعلنا الله و إياكم من الفائزين بكرامة هذا الشهر الفضيل .
متابعتكم تكفي :) وفقكم الله .

Safeed يقول...

الثائر ،،
حياك الله ..
تم .

شرقاوي يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
شرقاوي يقول...

إن كان في آداب العرب أدب التراجيديا، فهذه أولها في الإسلام. و تبين بداية انفصام الفكر الإسلامي.

ترك الناس علياً وما يرمز له. و هرعوا إلى اجتباء ما امكن لهم من المال.


فكيف ترك الناس علياً؟ حتى بعض أقرب المقربين له هربوا منه و اتجهوا إلى حيث الثروة.

ظاهرة حب المال ظاهرة إنسانية نراها بأم أعيننا على الساحة الكويتية الآن.

فلو عاش المجتمع الكويتي في
ذلك الوقت (فرضاً)، فإلى أية جهة ستتجه أكثريتة؟

إنها تراجيديا إسلامية، و لا زلنا نعاني من الإزدواجية في الفكر.

ــــــــ
حاولت ان أفك خط أول ما هو مكتوب. تمكنت من معرفة معنى "شير خدا"، لكني لم أفهم الجملة بكاملها.

Safeed يقول...

شرقاوي ،،
كان أبوذر يقول : ما ترك لي الحق من صديق .
و كان الإمام علي ع يقول : لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه .
تسأل أين سيكون الناس ؟
الإجابة موجودة : الناس اجتمعوا على مائدة شبعها قصير، وجوعها طويل .
.
.
أول ما هو مكتوب هو بيت شعر بالفارسية في مدح امير المؤمنين ع ، و هو مطلع لقصيدة شهريار تبريزي :
علي آن شير خدا شاه عرب
ألفتي داشتيه با إين دل شب

( علي يا أسد الله و سيد العرب
لك محبة في هذا القلب تضطرم )

ZooZ "3grbgr" يقول...

لا اعلم كيف اتسع فضاء المدونات
وقد كنت اراك نجما
وقلما النجم يسطع
ولم اتشرف بالاستزادة من زادك

هذا هو إمامنا علي
كرم وجهه الشريف
هكذا يرى دنيانا

.
.

إنَّما الدُّنيا فَنَاءٌ
ليس للدنيا ثبوت

إِنّما الدُّنيا كَبَيْتٍ
نسجتهُ العنكبوت

وَلَقَدْ يَكْفِيكَ مِنْهَا
أيها الطالب قوت

و لعمري عن قليلٍ
كُلُّ من فيها يموتُ

.
.

أبياتك جميلة يا سفيد
آجرك الله بها وحشرك مع علي

إذا ما التبر حـــك عـــلى محك
تبين غـــشه من غـــير شـــــك

وبان الزيف والذهب المصفــــى
"عـــلـي" بيـننا شبـه المـحك

Safeed يقول...

"zooz " 3grbgr ،،

عليُّ الدر و الذهب المصفى .. و باقي الناس كلهم تراب .

في النجف الأشرف أحسست بحضوره ، فشعرت بتقازم كلماتي أمام هامته .. يا أباالحسن .

شكرا للمرور