
.
فالله سبحانه و تعالى يُسمي النوم وفاةً ، يعني أن النوم هو ' بروفة ' مصغرة للموت ، تغادر النفس فيها البدن ثم ترجع أو لا ترجع فالروح باقية و البدن ميت[1] و معنى التوفي : قبض الشيء على الإيفاء و الإتمام ، يعني أن زمان بقاء هذه الروح حبيسة الدنيا قد انتهى ، وأن مهمتها قد أُتمّت دون اختيار منّا بل اختيار من قذفنا فيها، لا أعلم و أنا أضع رأسي على الوسادة كل ليلة إن كان ما سأراه طيفًا يمر أمام عيني بروجعها أم واقعًا جديدًا سأستيقظ عليه !
.
هنا بدأ فكري يغوص في هذه الآية على رغم كل المحيطين بي كنتُ كذلك الأعمى بين المبصرين ، هم يبصرون به و هو 'يتبصر' بهم ، و كلٌ بما لديهم فرحون .. لا أذكر الكثير مما قاله السيد بعد ذلك في التأبين لكني أذكر أنني تذكرت كلمة تروى عن أمير المؤمنين عليه السلام تزامنًا مع الآية يقول فيها : « الناس نيّـام ، فإذا ماتوا انتبهوا »[2]
.
و هنا بدأت أضواء الإشراق تتلألأ اما ناظريّ، كيف يُسمي الله سبحانه النوم وفاة و موت و يسميه الإمام – عليه السلام- الإنتباه ، أي اليقظة بعد النوم !
كيف أوفق ما بين نقلين فيهما معنى كبير ..
.
بدأ عقلي يجري معي ، حين ننام تنام عيوننا و تخرج أنفسنا و لكن تظل إدراكاتنا ، أحاسيسنا و أفكارنا حبيسة هذا البدن ، يستمر العقل بالعمل ، و تقوم أجهزة الجسد بوظائفها ، شهيق و زفير ، دورة دموية ، شعري ينمو و أظافري تطول ، و عيني تسبح تحت أجفانها يمينًا تارة و يسارًا تارة أخرى ، عجيب هو كمُّ القضايا التي يحلها عقل الإنسان و هو نائم ؟
و الأعجب منه هو استجابة هذا العقل و الإدراك لرغباته ليغذيه في أحلامه بما افتقده في واقعه، أحلامٌ تصور لنا المستحيل حقيقة ، و حقيقة بسيطة ، و البساطة سعادة!
.
النوم عن الواقع .. هو واقعُ النوم ، النوم ليس غيابًا عن الوعي و لكنه تغييرٌ له[3] يستجيب خلاله الإنسان لكل شيء و يتعامل مع كل الظروف التي تحيط به بلاإرادية ،يحتكم فيها لما سكن بنفسه و استقر بوجدانه، تخرج منه التصرفات على السجية،دون أن يعصف ذهنه وصولاً للفكرة،دون أن يتعب نفسه بتحريك بدنه و يكتفي بإدارة عقله لكامل وجوده و هو مغمض العينين ،و يحاول غالب الأحيان أن يصم أذنيه عن صوت المنبه ،أو يجعله جزءًا من حلمه حتى لا يستيقظ من فراشه الوثير.
.
نحن هكذا،نعيش كما يعيش النائم أحلامه ، نعتقد أننا نتحكم في دنيانا بكل شيء كما نتحكم بأحلامنا و الحلم الذي يرعبنا سينتهي بمجرد أن نفتح أعيننا !
.
نعيش هذه الدنيا كما لو أنها واجب لا نحبه و لكن نحله! نطفو مع أمواجها ،نمارس أعمالنا اليومية بروتين قاتل و نتصور أننا ملكنا أسباب كل شيء و نحن في الحقيقة لا نملك سوى أوهام نخدع بها أنفسنا، نقتل أيامنا بنومنا، و نعطل عقولنا بحجة أننا لسنا بحاجة للوعي طوال اليوم، و ما نمارسه فيه الكفاية لطاقة عقولنا على التحمّل.
.
نعتقد أننا أفضل من أولئك النائمين ، نومة صغرى كانت أو كبرى ،بسبب أننا قادرون على التصرف و الفعل و هؤلاء سُلبوا هذه القدرة و لكن لا نسأل ما فائدة هذه القدرة إذا كانت بلا جدوى؟
أو كانت موجهة لغير مقصدها؟
ما فائدة الفعل إذا كان منحصرًا فيما 'يفرضه' الواقع عليه، لا ما نفرضه على الواقع ؟
فيما يجبرنا عليه لا ما نجبره نحن عليه؟
.
أولئك النائمون يرسمون ما يشاؤون على لوحات أجفانهم، و نحن نكسر أحلامنا على صخرة 'جمودنا' ،اولئك يعلمون أنهم نائمون و لكن نحن غافلون عن هذه النومة، الأسوء من تجاهل الحقيقة بعد معرفتها هو التغافل عن وجودها!
كما يكره النائمون صوت المنبه ،كذلك نحن نكره المنبه الذي يذكرنا بحتمية الرحيل.
.
النائمون حقيقة أرواحهم نشطة ، و النائمون مجازًا أرواحهم مكبلة بقيود الإنخداع باليقظة ،هكذا نعيش حياتنا نمارس روتيننا اليومي و نجابه مصاعب الحياة على أنها مسائل بقاءٍ أو فناء ،ثم بعد أن تنتهي مهمتنا بالدنيا تتجلى الحقيقة أمامنا و هي أننا كنا نائمين و الآن نحن مستيقظون .. و أن الفناء و البقاء لم يكن أبدا متعلقا بأي من مصاعب حياتنا!
.
كنا نائمون لاننا نعتقد أن هذه الدنيا مثل ذلك الفراش نحن عليه كالنائم في حلمه، الذي يصنع ما يريد رؤيته ليشغل نفسه به هربًا من واقعه:الضعيف يتصور نفسه قويًا و الفقير يتصور نفسه غنيًا و الغني يتصور نفسه سعيدًا حتى إذا استيقظوا علموا أن ذلك ما كان إلا حلم من صنعهم.
.
هكذا نحن في حياتنا ،نائمون عن أنها دار عمّرناها لألاّ نمكث فيها ،كالقصور في أحلامنا نبنيها و لا نسكنها، هكذا تجلت عظمة تلك الكلمة عندي ، نحن نائمون عن حال هذه الدنيا و أنها دار ضيقة،و نخدع أنفسنا بأنها (الأجمل) و (الأفضل)، نتصور أن ما يكون بيدنا و نلمسه دائمًا خيرٌ من ذلك البعيد عنّا و نسمع عنه،لذلك هي أحسن على الأقل نحن نعيش بها و تآلفنا معها على عكس ذلك المجهول.
و لكن إذا مات الإنسان استيقظ و انتبه إلى أنه كان يعيش في محيط الخداع و الوهم،محيط الدار الضيقة التي سعى لأجلها مقابل الدار الواسعة التي لم يشأ رؤيتها أثناء نومه .
الله سبحانه و تعالى يرينا الموت كل يوم في أنفسنا قبل أي أحد آخر ،و مع هذا نحن ' نائمـون' لا ندرك هذه الحقيقة لأن إدراكنا تحول للأحلام و ترك الواقـع .. حتى ننتبه له فجأة .. كما ينتبه النائم على صوت منبه الاستيقاظ معلنًا له نهاية أحلامه!
.
" ماذا بعد الموت ؟ " للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي رحمه الله – ص 13