
ليس من عادتي أن أكتب عن أمثال كاردينالات القرون الوسطى إلا في حال الذكر التاريخي أو للاستشهاد فقط ، فالتاريخ واضح بأن هؤلاء لم يكونوا أكثر من كسبة باسم الدين فلا همهم علم و لا كان غاية أملهم دولة ، أو حتى الإلتزام بمبادئ الدين من باب أنها الطريق القويم للمجتمعات في حينها ، كان همهم هو السيـطرة ، و جمع المال و لا شيء أكثر من هذا .
قلاعهم و كنائسهم و أديرتهم كانت باذخة و ما وصلنا منهم اليوم يثبت التفاوت ما بين حقيقة الدين الذي يدعون إليه ، و ما بين واقع ما عملوه ، فالطمع و الإنتهازية و المصالح الخاصة هي ما حركتهم و لا شيء آخر ، لا أظن أنني أستطيع أن أزيد على ما ذكره نيكولا ميكافيلي في كتيبه ( الأمير ) حين بدأ الحكاية عن الولايات الدينية في الفصل الحادي عشر .
و لأن الزمن دوّار ، و لأن كل شيء يرتبط بدائرة أو بالأحرى حلقة تعيد نقطة البداية كل تارة و أخرى فما نعيشه اليوم نحن هو ارهاصات تماثل ما عاشته البندقية و روما قبل مجئ البابا يوليوس الذي بدأ حقبة الباباوية الحاكمة .
النائب المحترم محمد هايف المطيري انتفض و امتطى صهوة جواده وسن رماح أقلامه و شحذ عضلات لسانه ليبدأ حربه الهوجاء ضد موقع YouTube الذي سمع اسمه لأول مرة حين تم ذكره على صفحات الجريدة ، و لم يكن هذا منه إلا من بعد حركة غبية قام بها البعض للحث على استخدام الوسيلة الوحيدة التي تفتق عنها ذهنه لمحاربة الإلحاد و الرذيلة - و هي اسهل طريقة لكسب التعاطف في مجتمع يحب مظاهر التدين أكثر من الدين ! ألا و هي الـمنع .
رغم أن القرار تم التراجع عنه ، إلا أنه أصبح يشكل مكسبًا جديدا لشخص غاية الدين عنده هو أن يتم " تعليب " عقول الناس حتى يلاقوا ربهم ، و ليس أفضل من ذلك إلا سلوك سبيل الدفاع عن الدين و الأخلاق ، فهما مطية كل من لا مطية له في هذا الزمن ، فموقع يوتيوب صار حجبه واجبا شرعيا و وطنيا ( صدق أو لا تصدق لم ينطقها " وثنية " بل قال " وطنية " ! ) ، و كأن أزمة البلاد هي في موقع على شبكة الانترنت يهدد دين و اخلاق و بقاء الكويتيين .
يا سيد هايف ،
الخمور تصنع من البطاطا و التمور و العنب ، و الطعام يصنع منهم !
المخدرات تصنع من نبات الكوكا ، و الأدوية كذلك !
الأوراق تطبع عليهم البلاي بوي ، و كذلك تصريحاتك !
التلفيزيون فيه الشوتايم ، و فيه فتوى قتل الفأر !
عفوًا يا سيد هايف ، و لكن ..
في عهد الأمويين كانت هناك دور البغاء .
و في عهد العباسيين كانت ألف ليلة و ليلة .
و في عهد العثمانيين كان هناك ( الحريم ) .
و في عهدنا الحالي يتندرون بحوادث ( الـرميلة ) .
فانت يا سيد هايف تعيش بزمن أنا أجزم أنه الأكثر إلتزامًا في الصورة العامة مما كانت عليه المجتمعات طوال 1400 سنة في منطقتنا !
بل أنت تعيش في مجتمع " ملائكي " إن قارنته بعهود من سبق ذكرهم ، فلا ملحدين يناظرون علماء المسلمين في أوساط بلادهم ، و لا حكام يصلون الصبح أربع ركعات ، و لا أدباء يعارضون القرآن بكتبهم ، و لا شعراء يصفون الحكام بصفات الإلوهية ، و لا شعوب تموت من الجوع في الأحياء الجنوبية بينما يمشي العسس في الأحياء الشمالية ليضمنوا بقاءها نقية منهم ، و لا دور بغاء مرخصة من الدولة و يرتادها من يرتادها ، و لا حوانيت تبيع و تنشر مخمّرات التمور و الأعناب ، و لا جواري يطربن أبناء الفريج ، و لا غلمان يباعون كما يباع الرقي على أرصفة الدائرة الرابعة .
فماذا تريد أكثر من هذا ؟
أن تريد أن يتخلى الإنسان عن إنسانيته بكل ما فيها ، فهذا مستحيل .. فالإنسان خلق .. عجول ، هلوع ، ظلوم ، جهول ضعيف ، كفار ، كنود ، يؤوس ، مُعرِض ، قتور ، مجادل ، فاجر .
و ليس المطلوب منّا أن ننصب قضاةً من أنفسنا عليهم نحدد ما يكونوا أو ما يصبحوا ، أُمرنا أن نأمر بالمعروف و ننهى عن المنكر و لم نؤمر بأن نجبر الناس على المعروف و ندمر المنكر و أهله ، و إلا لما بقي أحد على وجه البسيطة بما فيهم أنت يا نائبنا الفاضل !
و أن تريد أن تنصب نفسك مرشدا للناس فالإرشاد يكون بالكلمة و التعليم، و أن تريد أن تنصب نفسك وليًا على الناس فولايتك محصورة بمن أرادك إلا إن اردت ابتداع قاعدة جديدة فيها.
يا سيد هايف ،
تذكر أنّ الله سبحانه قال لنبيه ( لست عليهم بمصيطر ) ، لأن البشر لم يخلقهم الله سبحانه ملائكة !
أرسل الله سبحانه رسوله الكريم ليكون مبشرا و نذيرها و داعيا إلى الله و سراجا منيرا ، حتى يتم الله حجته فيكون له الحجة البالغة إن اختار الإنسان أن يكفر أو أن يؤمن ، و لم يرسله ليكون عذابا على بني البشر في الدنيا .
فالأولى أن تنشغل فيما يهدد الوطن و البلاد حقا من عنصرية و سرقات و تفكك بدأب يضرب أطنابه في الكويت ، و أحد معاوله بيدك !
و الأولى أن تتحول غيرتك " الدينية " و " الوطنية " هذه إلى فعل يثبتها على أرض الواقع ، لا أن تكون مجرد كلمات تخرجها من الأدراج حين تمارس هوايتك في المطالبة بالمنع و التكميم لأن قدرتك على الرد و التربية منعدمة .
و الاولى أن تقرا تاريخك و تاريخ هذه الامة و تاريخ الأمم الإنسانية كلها لتعرف أن فرض مظاهر التدين لا يعني تديّن المجتمع ، و أن المنع لا يعني أنك سلمت من النقد ، و أن التكميم لا يعني أنك لن تُجابه ، فهذه الأساليب كلها تهاوت حين تهاوت أطراف جدار برلين ، و لكن كما يبدو أن الخبر لم يبلغ مسامعكم !
.ينتخب الناس نوابا ليكونوا مشرعين و مراقبين، و ننتخب نحن نوابا ليكونوا علينا ( أنبياء ) !
الله يسامحكم ياللي حطيتوا ( الحجوة ) بحلجه .. شنو يفكنا الحين ؟