3 يناير 2009

حُـر بني رياح

وحي عاشوراء [ 6 ]


يتحدث الشهيد مرتضى مطهري في محاضراته عن الحريّة بمعاني كثيرة يُمكن أن تُقسم لها و تُعرف من خلالها ،، تارة يُمكن أن تُعرف من خلال الزهد و ترك الدنيا كما في قول أمير المؤمنين عليه السلام : العبد حرٌ ما قنع . فالقناعة أولى درجات سلم الحريّة لان فيها تتمثل الإرادة بترك الملذة رغم القدرة عليها .

و تارة أخرى تُعرّف الحرية على أنها إزالة العراقيل و العقبات أمام الإنسان ، أي بمعنى آخر فتح الطريق أمامه ليتسامى إلى الكمال عن طريق الإختيار في عوالم التنازع ما بين الرغبات و الإرادات و الملذات و المُهلكات .

و لكن ما يُركز عليه الإسلام كأحد مصاديق الحرية هو اتباع الإنسان للطريق القويم نحو التكامل على الصعيدين الإنساني و العقائدي ، و هذا ما يَلزم احترامه .

فلا احترام للعقائد التي يصفها الشهيد مطهري بقوله " تثبط قواه الكمالية و تحبسها حتى و لو كانت هذه العقيدة من انتخاب الإنسان نفسه " ، و يستدرك بذلك بقوله " الذي يجب أن يحرر و تهيأ أرضية تحرره هو حرية الفكر و تنمية التفكير ، و هذا هو غير حرية العقيدة " .

و لكن من أجمل ما خطه الشهيد مطهري في هذا الباب إشارته للتقسيم الثنائي في الإسلام للحرية :


  • حريّة باطنية :

الإنعتاق من الخرافات الفكرية و الأهواء النفسيّة .


  • حريّة ظاهرية :

عدم تقييد الإنسان و وضع العراقيل في طريقه .


و تنقسم هذه التقسيمات إلى تفريعات و شروحات كثيرة ، تناول العديد منها بكتبه بالبحث و التمحيص ، و لكنّي في هذا المقام أكتفي بهذا القدر كمدخل إلى فهم الحرية بصورة بعيدة عن النصوص الجامدة التي ندعيها ، و عن الشعارات التي نرفعها و نحن أبعد الناس عن تطبيقها سواءٌ مع غيرنا أو حتى مع أنفسنا و دواخلها .

إن الباطن هو طريق الظاهر ، فكل ما فيه ينضح على المظهر الخارجي حتى يلون صاحبه بمثل لونه ، فالسفيه لا يكون سفيهًا إلا إن كانت دواخله و نواياه تنبع من هذه الصفة السيئة ، و مثلها العكس .

الحريّة ليست كلمة تُقال و لا شعاراتٍ ترفع ، فهي بذلك تصبح جامدة لا معنى لها و تُدخل صاحبها في مدخل الجموع القطيعية التي لا تعرف في هذه الدنيا سوى السير وفق طريقٍ مرسوم واحدٍ مسلوبة الإرادة فيه ، حتى يصبح الناس كأنهم نسخٌ واحدة مكررة .

قلة هُم من ينفردون بمعاني الحرية و يقرونها بالعمل وفقها ، لذلك يسجلهم التاريخ في صفحاته المضيئة ، و لا يخبو ذكرهم لأنهم أمام هذه النسخ المكررة للملايين يُعتبرون شواذًا عن القاعدة ، شواذاً من ناحية إيجابية ينظر لهم المعادي و الموالي نظرة الإحترام و التقدير لأنهم اختاروا طريقا آمنوا به و لم يُرغموا عليه فأصبحوا كفوًا كريمًا لكل مثلٍ يُضرب .

يروى عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام :

« الحرُّ حر على جميع أحواله ، إن نابته نائبة صبَر لها ، و إن تداكّت عليه المصائب لم تكسره ... »

فإن سُلب الإنسان حريته الظاهرية ، لقهرٍ أو لغَلبة او لغيرها من الأسباب و الأحكام ، فإن حريته الباطنية تظل كامنة فيه تظهر بفعله و حركاته و الأهم من ذلك كله بقراراته و أحكامه ، إن الباطن لا يمكن لأيٍ كان أن يمد يدهُ إليه و يسلبه من الإنسان لأنه شعورٌ وجداني لا يَصل إليه إلا من رغب الإنسان بفتح الطريق لهُ ليصل له .

هكذا كان الحر بن يزيد الرياحي رضوان الله عليه ، فهو قد سُلب حريته الظاهرية و قاد الجيش الأموي بعدد يقدر بأربعة آلاف فارس و جعجع بالحسين عليه السلام نحو كربلاء حتى نزل بها ، ثم منعه من الماء تنفيذًا لأوامر عمر بن سعد - لعنه الله - و أوامر ابن زياد الدعي بن الدعي ، هذه التصرفات التي ظهرت من الحُر كانت سالبة لحريته الظاهرية ، لأنه بها ارتضى أن يجعل أحكام غيره و إن لم يقتنع بها تحكمه حفاظًا على منصبه و دنياه .

في يوم عاشوراء و أثناء حوار الإمام الحسين عليه السلام مع عمر بن سعد قبيل المعركة ، عرض الإمام عليه السلام على ابن سعد الأمان على أن يترك هذا الأمر خوفا من مصيره الأسود فتحجج ابن سعد تارة باولاده و تارة بإمرته و تارة بداره ، ربط نفسه بالدنيا حتى سلبته حريته ، و أسكن في نفسه حبها حتى سلبته حريته الباطنية أيضًا ، و لكنّ الحر وقف يوم عاشوراء مطرق الرأس و هو يدنو من معسكر الحسين عليه السلام شيئًا فشيئا ، فرآه المهاجر بن أوس و قال له : أ تريد أن تحمل يا أبا يزيد ؟

فلم يجبه ، و أخذته مثل الرعدة ، فقال له المهاجر : و الله إنّ أمرك لمريب ، و الله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن ، و لو قيل لي : من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك ، فما هذا الذي أرى منك ؟

فقال له الحرّ : إنّي و الله أخيّر نفسي بين الجنّة و النار ، و لا أختار على الجنة شيئًا و لو قطعت و أحرقت .

فضرب فرسه و اتجه نحو الحسين عليه السلام ، طالبًا العفو و المغفرة ، و سأل الخروج للقتال بين يديه فأذن له ، و خرج و هو يرتجز :

إني أنا الحُـر و مـأوى الضـيف .. أضـرب في أعناقكم بالسيفِ

عن خير من حلّ بأرض الخيفْ .. أضربكم و لا أرى من حيفِ

و قاتل حتى عقر فرسه ، فاستمر راجلاً إلى أن شدت عليه جماعة فصرعته ، فأتى له الحسين عليه السلام و به آخر رمق و قال له :

" أنت الحر كما سمّوك ، حر في الدنيا و حرٌّ في الآخرة "

و أنشـد :

لنـعم الـحر حر بني ريـاح .. و نعم الحر عند مختلف الرماح

و نعم الحر إذ نادى حسينًا .. فـجــاد بــنـفسـه عـنـد الـصيــاح


هكذا كان الحر حرًا ، و تجسدت به معاني الحرية بأكملها ، لم تمنعه الدنيا ، و لم تبطئ خطاه الإمرة ، و لا كان سلب حريته الظاهرية سببًا في سلب حريته الباطنية .

الحريّة بأسمى معانيها لا تكمن في التنظير بل تتجسد بالتطبيق ، و خير تجسيد هو ما يقوم به الإنسان على نفسه أولاً ، و أفضل دلائل الحرية قدرة الإنسان على تحديد هويته و مصيره برغبته و إرادته حتى يصل إلى أسمى معاني الكمال ، لا يتأثر بقراراته بما يُفرض عليه من عادات البيئة و قيم المجتمع و أسباب الدنيا ، بل يتخذها بكامل قناعاته وفق رؤاه و أدلته و لا يلتفت إليه أي مؤثرات أخرى تشوش عليه رؤيته لدربه المرسوم ، قيمة الحريّة تكمن في أنها موجودة بداخل الإنسان و تظهر عند مفترق الطرق ، و ليست قيمتها في حجم التنظير لشعاراتها .

هكذا كان الحر ، و لاسمه فيه نصيب ، حرًا عَرف معنى الحرية فتسربل بردائها و اختار طريقه الصحيح دون أن يلتفت لأي عاقبة تسلب منه حريته ليبرر بها قعوده و تخاذله ، كما نفعل نحن و أغلب البشر .


السلام على الحر بن يزيد الرياحي ، صاحب الحسين عليه السلام ، و المقتول بين يديه .
  • كلمة :

في بحار الأنوار ، عن الإمام الحسين عليه السلام :


« أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى »

هناك 16 تعليقًا:

بو محمد يقول...

أجدت يا سفيد
أسأل الله العلي القدير أن يحيينا و إياك و سائر المسلمين أحرار و أن يقبضنا إليه و نحن جميعا على ذالك
نعم، لنا في حر بني رياحي مثالا صارخا جسد الحرية بالمعنيين الباطني و الظاهري
أنار الله قلبك و قلوبنا و دربك و دروبنا

كبرياء وردة يقول...

http://www.alsanabis.org/

جدبد الصوتيات
الشيخ حسن العالي 3محرم

ولي عودة للتعليق على هالموضوع والموضوع السابق

Salah يقول...

أحسنت

سلسلة شيقة

متابعين

MakintoshQ8 يقول...

لي عوده لقراءه المواضيع السابقه ..

وعظم الله اجوركم بمصاب الامام الحسين عليه السلام ..
سفيد طالبتك انك تدعي بصلاتك على من ظلم السيد محمد باقر الفالي :(
حسره بقلبي ما بعدها حسره

Yin مدام يقول...

توني اليوم سمعت محاضرة للسيد منير الخباز يتكلم فيها عن الحرية ونظرية الحرية المطلقة وكيف أن الإرادة تسبق الفكر
صراحة رائعة المحاضرة هي لليلة الثالثة من محرم هذا العام
والحين بوستك هم عن الحرية
وما أحلى أن يعيش الإنسان حرا بالمعنى الحقيقي للكلمة

--
مو خوش سالفة مصورينك وأنت نايم بحسينية !!
وبالنسبة لي لم أجد من يشدني ويأسر عقلي كما كان يفعل الدكتور الوائلي رحمة الله عليه :(
حاليا أسمع لعدة مشايخ وعلماء وآخذ اللي أقدر عليه من معلومات ودروس من كل منهم
فيه أبو باقر الحيدري
وأكو البالدي
يحثون على الفكر ومحاضراتهم مختلفة نوعا ما جرب ..


أحسنت يا سفيد ورحم الله والديك
الله يحيينا حياة محمد وآل محمد
ويحشرنا وإياكم مع محمد وآل محمد

|:| DUBAI |:| يقول...

متابعين ..

و في كل حرف أجر ان شاء الله لك !!

Maximilian يقول...

أجرك على بوفاضل يا سفيد

bhr.qadsaweya يقول...

مأجور
و تسلم عالموضوع
يعطيك العافية :)

ZooZ "3grbgr" يقول...

ونعم الحر حر بن الرياحي

اهتني بالشهادة
نالتك السعادة
دمك يريد يقلك
الله يحب عباده
واللي قضب سبيله
موته يظل ولاده
باقدس واغلى توبة
في قصص الارادة

Safeed يقول...

بو محمد ،،

آجركم الله ، و حشركم مع محمد و آله عليهم السلام .
شكرا للمرور .

.
.

كبرياء وردة ،،

لكم جزيل الشكر و وافر الإمتنان على هذا التفضل .
شكرًا .

Safeed يقول...

Salah ،،

و أنتم من المحسنين إن شاء الله .
شكرا للمرور .

.
.
Makintosh ،،

أجورنا و أجوركم إن شاء الله .
ما في داعي للتوصية ، و إن غدا لناظره لقريب إن شاء الله .

Safeed يقول...

Yin ،،

و أنتم من المحسنين إن شاء الله ،
جربت البالدي ، و السيد الحيدري غير مقيم بالكويت و لكن لكل شخص مذاقه و اتجاهه ، نعم محاضراتهم جميلة و فيها فكر و لكن الفكر نفسه ذو اتجاهات قد لا تتوالم كلها مع ميول الشخص ، للأسف .
عظم الله أجوركم ، و جزاكم خير الجزاء .

.
.

|:| DUBAI |:| ،،

آجركم الله ،
شكرا للمتابعة .

.
.

Maximilian ،،

رحم الله والديك .

Safeed يقول...

bhr.qadsaweya ،،

الله يسلمكم و يعافيكم .
و عظم الله أجوركم .

.
.

ZooZ ،،

يروى أن الحر حين عقر فرسه وثب منه و هو يقول :
إن تعقروا بي فأنا ابن الحرّ .. أشجع من لِبَد هزبرّ

و في قوله إشارة إلى طيب المنبت سبب حسن العاقبة ، فالحرية لا يعرفها إلا من شعر بطعمها و تربى عليها .

آجركم الله .

كبرياء وردة يقول...

كل شيء في حياتنا قرارت وخيارات
نحن نختار عقديتنا ومبادئنا
وكذا الحرية فهي خيار
ومن جبل حرا، يأبى أن يعيش ويموت إلا حراً

آليت لا أقتل حتى أقتلا - و لن اُصاب اليوم إلا مقبلا

أضربهم بالسيف ضرباً معضلا
لا ناكلاً عنهم و لا مهلّلا
لا عاجزاً عنهم و لا مبدّلا
أحمي الحسين الماجد المؤملا

كان هذا خياره، اختار أن يموت حراً، اختار أن يخلد ذكره، فكان استشهاده بداية لحياته.

Safeed يقول...

كبرياء وردة ،،

أحسنـتم .

غير معرف يقول...

It seems a little more than I need to check the information, because I was thinking: Why does not my GLOG these things!