5 يناير 2009

القاسمُ بين الأفعال !



وحي عاشوراء [ 8 ]




كانط الفيلسوف الألماني الشهير له قول في الأخلاق يخالف فيه نظرة الفلاسفة ، و تعتبر نظريته من ناحية مجردة رائعة جدًا لولا أنه غفل عن نقطة مهمة سيأتي ذكرها لاحقًا .


في قوله ينص كانط ( كانت ) على كون الفعل الأخلاقي يقوم على أساس " الباعث و القيم " ، أي أنه حتى نطلق على فعل ما بانه فعل ( أخـلاقي ) فإننا يجب أن ننظر له بصورة مجردة منزهًا عن أي ظروف محيطة به ، ثم نقيسه وفق القيمة التي يشكلها ، أما الباعث فمعناه أن نأخذ هذا الفعل ثم نبدأ بتصوره بشكل عالمي [ كوني ] بحيث أنه لو طبق لأصبح الوضع أفضل إذن فهذا الفعل حسنٌ ممدوح فهو فعل أخلاقي .


بصياغة أخرى مبسطة يُمكن أن نقول أنّ هذا الفعل الأخلاقي هو الفعل المطلق ، أي أن الإنسان يقوم به على أساس أنه تكليف أو فرض صادر من نفسه ، أي وجدانه ( فطرته ) ، و لا ينتظر منه فائدة أو غرض .


الشهيد مطهري رحمه الله ، يذكر نظرية أخرى لبعض الفلاسفة المسلمين يستشكلون بها على رؤية كانط هذه بسبب أنها قائمة على محاولة تفسير الأخلاق بعيدًا عن الدين ، و بالتالي تهمل سبب هذه الفطرة و لا تقدم لها تفسيرًا واضحًا ، و ينقل تحليل القائلين بهذه النظريـة إلى كون الفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يصدر ابتغاء رضا الله سبحانه و تعالى ، أي أنّ أيّ فعل يصدر من الإنسان هدفه المنفعة العامة أو الفائدة دون مقابل أو جزاء هو فعل أخلاقي و يُعتبر فعلاً حسنًا يؤدي إلى راحة النفس لكون هذا الفعل يرضي الله سبحانه و تعالى الذي وضع به هذه الفطرة المستأنسة بهذا الإندفاع اللا ربحي لكي يعتق نفسه من الإنحسار على " ذاته " و يُصبح عضوا فاعلاً في مجتمعه البشري .


في كربلاء و تحديدًا قبيل زوال الشمس من يوم عاشوراء نحن على مشارف إثبات هذا الأمر ، بعد أن استشهد أنصار الحسين عليه السلام و بدأ الهاشميون بالبروز واحدًا تلو الآخر ، بعد آل عقيل و بنو جعفر بدأ أبناء الحسن عليه السلام فكان أولهم عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام المكنى بأبي بكر ، بكر رملة زوجة الحسن عليه السلام و الشقيق الأكبر للقاسم الذي كان بحسب المشهور لم يتجاوز الرابعة عشر من عمره الشريف.


في خروجه للقتال يذكر أرباب المقاتل أنه استأذن عمّه في المبارزة فأبى أن يأذن له ، فلم يزل يتوسل إليه و يقبل يديه و رجليه إلى أن أذن له و في رواية أخرى أنه أتى للإمام الحسين عليه السلام بوصيّة أبيه الحسن عليه السلام يطلب فيها خروجه للقتال دفاعًا عن عمه الحسين عليه السلام يوم عاشوراء .


يُكمل المحدث القمّي رحمه الله ذكر الوقائع كما في منتهى الآمال نقلاً عن حميد بن مسلم :


خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر ، في يده السيف ، وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما ، ما أنس أنها اليسرى ، فقال عمرو بن سعيد بن نفيل الأزدي : والله لأشدن عليه ، فقلت له : سبحان الله ، وماتريد إلى ذلك يكفيك قتله هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه من كل جانب .


قال : و الله لأشدن .


فما ولى وجهه حتى ضرب الغلام بالسيف ، فوقع الغلام لوجهه وصاح : يا عماه !


قال فأته الحسين كالصقر المنقض ، و تخلل الصفوف ثم شدّ شدّة الليث إذا غضب ، حتى إذا وصل إلى عمرو اللعين ضربه بالسيف فاتقاه عمرو بيده فأطنها - أي قطعها - من المرفق ، فصاح صيحة عظيمة.


وحملت خيل عمر بن سعد عليه ليستنقذوه فاستقبلته بصدورها و وطئته بحوافرها حتى مات.


فلما انجلت الغبرة إذا بالحسين على رأس الغلام وهو يفحص برجليه ، وحسين يقول : عزّ على عمك أن تدعوه فلا يجيبك ، أو يجيبك ثم لاتنفعك إجابته ، يوم كثر واتره ، وقل ناصره .


ثم احتمله على صدره ، وكأني أنظر إلى رجلي الغلام تخطان في الأرض ، حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين ، فسألت عن الغلام ، فقالوا : هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، صلوات الله عليهم أجمعين .



  • خروج القاسم عليه السلام و حثّه السؤال له يدفعنا إلى التساؤل عن سبب هذا الفعل ؟

الإنسان بطبعه كما يقول د. علي الوردي ( أنوي ) يعني أنّ الأنا بانواعها هي من تتحكم به و تدفعه للعمل لمصلحتها ، بينما طلب القاسم عليه السلام لم تكن فيه مصلحة له حسب الظاهر ، فهو غلام لم يصل لسن التكليف ، و ليس عليه قتال ، و لا يُقاتل لأجل دفع ضرر يلحق به يتعدى على أنويته الذاتية ، بل إن طلبه لو قسناه بالمقاييس الماديّة هو ضد نفسه و شخصه و كان فيه موته أي فنائه في هذه الدنيا ، فماذا كان الدافع ؟


لعلّ الدافع برأيي هو ما قال عنه كانط ، و أصلّه الفلاسفة المسلمون ، الفعل الأخلاقي المجرد ، الفعل الذي لا يقوم بناء حسابات الفائدة و المصلحة ، الفعل الذي يقوم على الفطرة الإنسانية البحتة ، لأنها مجبولة على ' الراحة ' فيما تقوم به إذا كان به رضا الله سبحانه و تعالى ، الفعل الذي يُصوبه الدين و ينادي به ، كان القاسم عليه السلام يضحي لأجل الحسين عليه السلام و ما يمثله من نور في هذا العالم ، يبحث عن رضا نفسه في مرضاة الله سبحانه و تعالى في وجدانه و هو يعلم يقينًا بأن لا جزاء يعود له في عالم الماديات هذا .


هذا الوجدان لا يرتقي إلى الإحساس به بتمامه إلا من ارتفع بنفسه ، كان أستاذنا السيد الفالي حفظه الله يقول بأن نفسك ذات أنويتين ، أنا علوية و أنا سفلية ، هاتان الإثنتان لا ترتبطان بسنٍّ معين و لكنهما تنبعان من تربية الفرد ، فالتربية ليست إنشاء أو بناء ، بل هي توفير الجو المناسب لتنمية القابليات أو كما يُعبّر عنها « إحياء القابليّات الباطنيّة الموجودة بالقوة في الشيء و إخراجها إلى الفعليّة » ، بحيث تتحول من شيء كامن في الوجدان إلى فعل مُلازم للإنسان ، و أنه حين تكون أفعاله نابعة من الأنا العلوية يستظهر المدح و الحُسن كما هم المصلحون الخيرون الذين أسبغت عليهم البشرية صفات القداسة، و حين تكون نابعة من الأنا السفلية يستظهر الذم والقدح كما يحدث مع المجرمين و الظالمين و من سار عل نهجهم.


القاسم عليه السلام تربى يتيمًا ، و لكنه تربى بشكل صحيح فاليُتم أو فقدان ركن من الوالدين لا يعني انعدام التربية لأنها قائمة بالأصل على فطرة الإنسان و كل ما تحتاجه هو التوجيه السليم لها ، في قصة حياة القاسم عليه السلام عبرة لنا نستلهم منها أنّ مشاكلنا الأخلاقية مصدرها اعتمادنا على الأنا السفلية و أنها مصدر الشرور بما فيها من طغيان و أنانية و بحث عن مصلحة شخصية خالصة و كيف أننا نقيس تضحياتنا بما تعود به من فائدة علينا نحن فقط و لا نقوى على التضحية لأجل الفعل الأخلاقي الصحيح المجرد و هذا هو سبب قصورنا في الحياة ، القاسم عليه السلام قدّم لنا كيف يكون الإنسان نجمًا ثاقبًا في أفق الزمان و أن طريق هذا الخلود موجود داخل كل إمرءٍ فينا و لكننا بحاجة لأن نبحث عنه في دواخلنا قبل أن نطلب طريق الخلود و نتلمسه من غيرنا .


السلامُ علَى القاسمِ بنِ الحسنِ بنِ عليّ، المضروبِ هامتُه، المسلوبِ لامَتُه


  • كلمة :

من حديث الإمام علي بن موسى الرضا - عليهما السلام - لابن شبيب كما رواه الصدوق في الامالي :

يا بن شبيب ان سرك ان تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالعن قتله الحسين(عليه السلام).
يا بن شبيب ان سرك ان يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين بن علي (عليه السلام) فقل متى ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً.
يا بن شبيب ان سرك ان تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان، فاحزن لحزننا، وافرح لفرحنا، وعليك بولايتنا، فلو ان رجلاً، احب حجراً لحشره الله عز وجل معه يوم القيامة

هناك 8 تعليقات:

بو محمد يقول...

عزيزي سفيد
رائع سطرت و الله
أحسنت و وفقت بإذن الله

فريج سعود يقول...

لا عجب فهو نجل الحسن

احسنت وسلمت يداك مرة تلو اخرى

Manal يقول...

احسنت

وعظم الله اجوركم

Yin مدام يقول...

أحسنت وسلمت يمناك اللي خطت هالروائع
كل حرف وكلمة وتصرف صدر عنهم في ذلك اليوم نستمد منه مئات العبر والدروس وأجرك على الله على كل بوست سطرته لتبيان بعض هذه الدروس والمواعظ والعبر


الله يوفقك في دينك ودنياك ويوفقك دوم لخدمة نبينا محمد وآل بيته الأطهار عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام

كبرياء وردة يقول...

كيف لا يكون القاسم هكذا وله أم كرملة
أي أم عظيمة هذه التي تدفع بابنها إلى المنية
حيث قالت له: بني لا أرضى عنك حتى أرضى عنك حتى أرى شبابك معفراً
السلام على عريس الطفوف

يعطيك العافية سفيد واجرك على الله
ما قلتلي سمعت المحاضرة؟
واذا سمعتها شرايك بالخطيب؟

YouSTaNzR يقول...

متابع وحي عاشوراء

Safeed يقول...

يبو محمد ،،
.
فريج سعود ،،
.
Manal ،،
.
Yin ،،
.
YouSTan،،

شكرا لمروركم ، أحسن الله إليكم و أجزل لكم الثواب إن شاء الله .

.
.

كبرياء وردة ،،

الله يعافيكم ،
نزلت المحاضرة مرتين ، و حاولت سماعها مباشرة من النت لكن في كل الحالات رفَضت أن أسمعها !!
هناك خلل ، إما من جهازي و الانترنت عندي أو من الموقع نفسه لأن كل المحاولات باءت بالفشل للأسف .
الله يعافيكم ، و شكرا للإشارة للمحاضرة أحاول اجرب حظي مرة عاشرة معاها و الله كريم .

غير معرف يقول...

I will pass on your article introduced to my other friends, because really good!