6 يناير 2009

ضوء الأكبر في التاريخ .



وحي عاشوراء [ 9 ]

.

.

قبل أن يتوفى ' ويل ديورانت ' المؤرخ و الفيسلوف الأمريكي الشهير و صاحب السفر النفيس " تـاريخ الحضـارة " ، كان هو و زوجته ' آريل ' يعملان على ثمرة مشاريعهما و هو تلخيص تاريخ الحضارة بتأريخ عدة شخصيات اعتبروها أبطال التاريخ ، و الهدف من ذلك كما يقول ديورانت نفسه :




" التاريخ جزء لا يتجزأ من الفلسفة .

الفلسفة محاولة لتحقيق منظور رحب ، منظور وسيع للحياة و الواقع ؛ منظور ضخم يُحدد لاحقًا موقفك من أي جانب من جوانب الواقع أو الحياة . هل سيجعلك هذا المنظور أكثر تفهمًا و تسامحًا مثلاً ؟

بإمكانك أن تحرز منظورًا كبيرًا بطريقتين على الأقل : الأولى عبر العلم و ذلك بدراسة شتى العلوم التي تصبغ كافة أوجه الواقع الخارجي لكن بامكانك كذلك التوصل إلى ذلك المنظور الكبير من خلال دراسة التاريخ ... إلى أن يقول معبرًا عن طريقته : فقلت لنفسي ، عليّ أن أدرس التاريخ لأعرف ما كُنه الإنسان الذي لن أجده بأي حال من خلال العلم. "

يرى ديورانت أن القواعد و المبادئ الأخلاقية متعارضة مع الطبيعة البشرية المزعجة , التي تميل لغيرها رغم وجودها بها ، و لكنه يعتقد بان هذه المبادئ ترسخت بالإنسان بفضل مؤسسة من عدة أضلاع هي : العائلة ، الدين ، المدرسة ، القانون ، الرأي العام .


العائلة من خلال قيمها و اسهامها ، المدرسة من خلال نشرها للقوانين الإلهية ، الدين من خلال سنه لهذه الشرائع الإلهية و النظم الاخلاقية ، و القانون من خلال استعمال القوة في تدعيم هذه النظم أما الرأي العام أو المجتمع فمن خلال ازدرائه بصورة عامة للإنحلال .


يعتقد ديورانت أن العالم و التاريخ البشري بأجمعه يتأرجح ما بين الفسوق و التطهير ، فكلما ضعفت واحدة من هذه المراكز المذكورة سابقة اقتيد المجتمع نحو الإنحلال الأخلاقي و يتبع ذلك تطهير المجتمع من خلال توجهه نحو الدعوات الاخلاقية مجددًا و يضرب أمثلة كثيرة منها على سبيل المثال انحلال روما في عهد نيرون و كومودوس ثم ظهور المسيحية بما مثلته من طُهر و اعتناقها رسميا من قبل قسطنطين .


هذا كله يقود ويل ديورانت أنه من بين التذبذب الدوري بين الإسراف و نقيضه في التاريخ البشري ، هناك مشاهد ثابتة تبعث على الابتهاج ، تمثل الصحة العقلية للمجتمعات ، و منها رؤيا الأنبياء و القديسين التي بحسب قوله " تحدونا على الاتصاف بالنبل و الشهامة " ، حيث تمده بالقوة و التشجيع لمحاربة الشرور التي تتربص بنا .


هكذا كان علي الأكبر عليه السلام في كربلاء ، نورٌ مضيء وسط الظلام يستمد منه كل شخص عِبَر الشجاعة و الشهامة و القوة ، و الأهم من ذلك الوقوف مع الحقيقة و الدفاع عنها بأي ثمن ، في وجود الحقيقة حياةً للإنسان و لكنّ ما يحدث في عصور الظلام هو تحول هذه الحقيقة للنقيض فهي لكونها حقيقة تصبح تهديدا مباشرًا لكيان هذا الإنسان كما يراها هو ، لأن قيمتها غيرُ متعرفٍ عليها .


في طريقهم لكربلاء أخذت الحسين عليه السلام غفوة على فرسه ثم انتبه منها مسترجعًا ، فمضى الأكبر لأبيه يسأله عن رعبة الانتباه هذه ، فقال الحسين عليه السلام : رأيت كأن هاتفاً يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم ، فعلمت أنّها أنفسنا نُعِيت إلينا


فسأل الأكبر : يا أبه أفلسنا علـى حق ؟


قال : بلى . يا بني والذي اليه مرجع العباد .


قال : إذاً لا نبالي بالموت أ وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا .



يروي أبو الفرج الأصفهاني عن المغيرة أن معاوية في أيام مُلكه ، سأل : من أحق الناس بهذا الأمر ( أي الخلافة ؟ ).


قالوا : أنت .


قال : لا ، أولى الناس بهذا الأمر عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، جده رسول الله ، و فيه شجاعة هاشم ، و سخاء بني أمية ، و زهو ثقيف .


جمع علي الأكبر صفات الأضداد فاستحق بذلك الكرامة بين أوليائه و أعدائه ، فضائله أعطته المديح بين كل من عرفه فسلب بذلك حجة أعدائه ، كان علي الأكبر عليه السلام ثمرة التكامل بين كل المؤسسات التي رسخت القيم الفاضلة ، و أحيت الاخلاق النبيلة و على رأسها كان الدين .


في ذكر حوادث استشهاده سلام الله عليه ، عِبر لا يكتفي المرء من النهل منها فهي ينبوع مُستمدٌ بقاؤه النقي من تذبذب المجتمعات البشرية التي كلما انحلت أو واجهت الإنحلال توجهت نحو مصاديق العظمة لتدل منهم على طريق عظمتها مجددًا ، فـ علي الأكبر هو تعبير عن كُنه الإنسان الذي يذكره التاريخ و لا يصنعه العلم.


حين استأذن للقتال نظر أبوه نظرة آيس إليه و بكى و رفع شيبته إلى السماء و هو يقول :


« اللهم اشهد على هؤلاء القوم ، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقًا و خُلقا و منطقا برسولك ، و كنّا إذا اشتقنا إلى نبيّك نظرنا إلى وجهه ... »


فتوجه إليهم على فرسه ' ذو الجناح ' و هو يرتجز :


أنا عـلي بن الحسـين بن علي .. نحن و بيت الله أولى بالنبي


أضـربكم بالسـيف حـتى ينثني .. ضرب غلامٍ هاشميّ علوي


و لا أزال اليوم أحمي عن أبي .. تالله لا يحكم فينا ابن الدعي


و اشتد به العطش حتى رجع للمخيم مرة أخرى و هو يقول : يا أبه ، العطش قد قتلني ، و ثقل الحديد أجهدني ، فهل إلى شربة ماء من سبيل أتقوّى بها على الأعداء ؟


فبكى الحسين عليه السلام و هو يقول : وا غوثاه ! قاتل قليلاً ، فما أسرع ما تلقى جدّك رسول الله ، فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدًا .


و هذا ما كان حين ضربه مرّة بن منقذ العبدّي على مفرق رأسه بالسيف ، فانحنى على فرسه الذي أعمت عينه كثرة الدماء ليأخذه إلى معسكر الأعداء فقطعوه بسيوفهم إربًا إربا .


في الرواية حين ضُرب الأكبر عليه السلام صاح :


« يا أبتاه ، هذا جدي رسول الله - صلى الله عليه و آله - قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبدا ، و هو يقول : العجل العجل ، فإنّ لك كأسًا مذخورة حتى تشربها الساعة »


ديورانت يرى في القديسين أنهم العلامة الذين حافظوا على الصفحة النقيّة للتاريخ البشري بين مدلهماته هم العترة الذهبية في رحم التاريخ و التراث المذهل للجنس البشري بأكمله ، عليٌ الأكبر بلا شك هو أحد هذه العلامات الفارقة بما مثلّه و لا يزال بأثره في الزمان ، يقول المؤرخون بأن سيرة الإنسان تختلف عن أثره ، فالسيرة هي حياته بمراحلها و لكن آثاره هي موقفه أو مواقفه التي تغدو محجًا يقصده الناس ليستلهموا منه القوة ، إذن الآثارُ هي لحظات من الحياة .


في عليٍ الأكبر كانت حياته هي أثره ، و أثره هو حياته و مماته ، فكلها علامات متصلة تبين أن الطهر موجود ، و إن تمرد عليه البشر.

السلام على علي الأكبر الشهيد بكربلاء

أشبه الناس بجده رسول الله - صلى الله عليه و آله - .

  • كلمة :

في علل الشرائع ، للشيخ الصدوق قدس سره :

عن أبى الحسن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال :

من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه يجعل الله عز وجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره وقرت بنا في الجنان عينه ، ومن سمى يوم عاشوراء يوم بركة وادخر لمنزله شيئا لم يبارك له فيما ادخر وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله ابن زياد وعمر بن سعد ( لعنهم الله ) إلى أسفل درك من النار .

هناك 3 تعليقات:

بو محمد يقول...

جزالك الله عن هذا المجهود التثقيفي يا سفيد بما هو أهله
كلمات و أفكار فعلا تجد محلها في القلوب و تفرض نفيها على الفكر
أجرك على الكريم الوهاب يا سفيد

Yin مدام يقول...

أحسنت يا سفيد
مجهود تشكر عليه


سلسلة تثير الفكر وتنير القلوب

مأجور إن شاءالله

Safeed يقول...

بو محمد ،،
Yin ،،

مأجورين إن شاء الله بهذا المصاب .
حشرنا الله و إياكم مع محمد و آله عليهم السلام