26 يناير 2009

أنا أقول و أنت تقول !

سفيد الطائفي [ 3 ]



يقولون بأن النتيجة عيال المقدمة و بصيغة قواعد الأصول يُعبر عن هذا المعنى بقولهم ( الحكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوره ) ، و معناه أن أي نتيجة نراها لا يمكننا الحكم عليها بالسلب أو الإيجاب دون أن ننظر للمقدمة أو الآثار التي أُخذت في الاعتبار حتى تركبت لتصل إلى هذه النتيجة ، و بمعنى القاعدة الأصولية يُمكن التعبير بالقول أن أحكامنا في الغالب هي نابعة من فهمنا الشخصي و بحسب ما نتصوره عن هذا الشيء و اللازم أنها يجب أن تنطلق منظور فهم الأدلة التي بُنيت عليها قبل إدخال تصورنا و ذائقتنا الشخصية في الحكم .

الأحكام الفقهية و كذلك مبادئ الأفكار سواء الروحانية أو المادية و من ضمنها السياسية أيضًا لا يجب الحكم عليها من خلال استحساننا أو استقباحنا منها و على مبنى البغض أو المحبة لها و هذا ما ينفي صفة العلمية عن أغلب النقاشات الدائرة لأنها تنضوي تحت إطار الاستحسان الشخصي و الانتصار الذاتي و ليست من باب النقاش العلمي ، الذي ينظر للمسألة من ناحية علمية مجردة و بحثية صرفة ، يمكن تقريب القضية للذهن في بيان أنه من النادر أن يصدر أحدهم حكمًا على ثمرة ما لشجرة ما بناءً على ما تغذته من جذورها بدلا من الحكم عليها مباشرة بالحموضة أو المرورة ، فالأسهل دائما عندنا هو إطلاق الحكم على الذائقة لذلك يشير أبو الفرج الأصفهاني إلى أنه مع الأيام يكتشف الإنسان نقصان حكمه !

أمران يجب الإلتفات لهما في مثل هذه النقاشات و الحوارات :

1) اختلاف المسلمات .

و معناه أن لكل طرف قواعد و نُظم أصولية يبني عليها اعتقاداته ، هذه النظم تتفرع من قواعد مُسلّم بها أي أنها الأصل الذي عليه تبنى باقي النتائج ، لكل طرف مسلماته أو ما يمكن أن يطلق عليه ( قوالبه ) لا يمكن لأي شخص أن يدخل نقاشًا أو حوارًا و هو غير مطلع على المسلمات عند الطرف الآخر و غير آخذٍ لها بالاعتبار ، لا يمكن لأي حوار أن يكون منتجًا إذا كل طرف يُصر على أن مسلماته هو فقط هي الأرضية الوحيدة التي يجب أن يبنى عليها كل الحوار و ما ينتج عنه .


2) تباين الإلزامات .


و هو يُشير إلى أن الحجة في الحوار حتى تكون ملزمة للطرف الآخر يجب أن تكون مبنية وفق قواعده و أصوله بحيث أنها تصبح مقبولة عند الطرف الآخر و العكس صحيح ، من ثمة يُمكن لهذا الإلزام أن يقوم بدوره ، و لا يصح أن أحاول إلزام غيري بما أؤمن به أنا و بناءً على نظرتي الشخصية ، لاختلاف المسلمات كما سبق و أن ذكرت .


مثلاً : قضية الإلحاد و الإيمان في الغالب مباني الملحدين الغربيين قائمة على ما توصلت له الفلسفات الإنسانية و نظرياتها مع اجتذابها لبعض النظريات العلمية الأخرى ، لا يمكن أن يتم اثبات الخالق سبحانه في حوار مع هذا الشخص بأن يتم الاستشهاد عليه بنصوص دينية هو لا يراها سوى كتابات غيبية لا اعتبار لها ، هذا الإلزام قد يفيد مع المؤمن بديانة سماوية أخرى لأنه يعتبر الألوهية أصلاً موجودًا فالنقاش يكون في عرضه لا جوهره .


أما هذا الشخص الملحد فهو لا يرى الألوهية لذلك يكون إلزامه من نفس الباب الذي اعتقد به و هو باب العلوم العقلية و الطبيعية و أدلتها استقراءً حتى الوصول للنتيجة النهائية ، فما يصح عندي قد لا يصح عند غيري فلا يجوز أن أحاكمه على أساسه [1].


....


هذا المثال الأخير ضربته حتى أبين من خلاله أنه لو تنزّلنا إلى ما دون مباحث الخلق و الألوهية ، إلى ما يندرج تحتها فإن القواعد العلمية لمثل هذه الحوارات تظل ثابتة فهي بمثابة مقاييس متعارف عليها ، لذلك تكون نقاشات أهل العلم مثمرة لأنها قائمة على هذه المقاييس ، بينما ما يحدث للأسف بين العوام هو ( خوارات ) تقوم على مبادئ التعصب [2] لما نشأ عليه و اعتبره أصلاً لا يرتضي عنه بديلا و إن كان يحاور من لا يعتقد به بالأساس و هذا ما يدخله في باب الفضول الذي هو ضياعٌ للعقول .


مسائل الإعتقادات و الأفكار هي مسائل عقلية بحتة لا تخلو من جانب عاطفي فمناقشتها على غير هذا المحمل هو إساءة لها و للعقول و بالتالي إساءة لمن يؤمن بها و لمن يناقش فيها كلٌ على حدة ، صحيح أنه من الواجب أحيانا على الإنسان أن يتنزل لهذه المدارك حتى يزيح بعض الشوائب إلا أن هذا لا يعني إعطاءها صبغة ( الحوار ) فضلا عن الفائدة و العلمية فهي ستظل إن لم تكن مبنية على الأصلين السابقين مجرد معارك طفولية تبين عدم ' وعي ' أصحابها .



يتبع إن شاء الله ..



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] كيف نفهم ما يريده الطرف الآخر ؟


الإجابة في الحلقة القادمة إن شاء الله :)


[2] لماذا يتعصب الناس لعقائدهم ؟


الإجابة لكونها احدى الأضلاع التي تشكلهم كـ"ـبشر" ، أما كيف هذا ؟


فستكون إجابته في حلقة أخرى إن شاء الله .



هناك 18 تعليقًا:

سيدة التنبيب يقول...

ما تقوله صحيح تماما

كانت زميلتي في الغربة طبيبة سودانية تحب مناقشة الأمور الدينية .. كنت أجيب باقتضاب و لا أتعمق .. و عندما كنت أشعر أن النقاش سيطول كنت أقول لها :
في رأيي أن نقاشنا سيكون عقيما أي بلا نتيجة لأنه محكوم بخاصتي تغلب العاطفة من جهة , و الجهل من جهة أخرى .

عندها كانت تذهب لتقرأ و تبحث بالانترنت ثم تعود لمناقشتي .. حتى تكون لدينا قاعدة مشتركة نتحدث على أساسها فما هو لدي من المسلمات هو بالنسبة لها طلاسم ..و لا تقبل مناقشتي لمسلماتها لأنها مغلوبة بعاطفتها ..
و بما أنها هي من تريد النقاش فقد كان عليها أن تقرأ و تبحث .

متابعة إن شاء الله

@alhaidar يقول...

والله يا أخي العزيز لا نملك إلا تأييد ما تفضلت به ..

بانتظار المزيد ..

مبدغ ونافع دائما ..

غير معرف يقول...

لا أدري ما تحاول أن ترنو إليه

لكن أنا لا أعتقد أنه جدال عقيم إلاّ إذا استشهد بآيات تقليدية لمحاولة الاقناع لأن الأخير لا يؤمن بها أصلا كما تفضلت أنت .


عموما , أعتقد أن من واجب الانسان المؤمن بالله أن يساعد الغير مؤمن على إيجاده , ويحاول معه مرة واحدة فقط وليس بإلحاح .


نكون بذلك قد أدينا الأمانه وأرضينا ضمائرنا , وعلى أي حال كل شخص مسؤول عن تصرفاته وأفعاله بالأخص الأمور الإيمانية فهي علاقة خاصة بين العبد وربه .

TruTh يقول...

يعطيك العافية على المقالة المفيدة

و بالضبط هذا اللي لازم الكل يفهمه ان معتقدات كل جماعة تكون مبنية على اصول تختلف عن الجماعة الثانية

و المفروض الكل يحترم هذا الاختلاف لكن المشكلة ان اكو ناس يبون يفرضون معتقداتهم على غيرهم اجباري و يحاربون بشدة المختلف معاهم و ودهم يقمعونه

متابعة تكملة الموضوع...

Yang يقول...

آغايا سفيد

متى بتبطل طائفية ؟؟؟

:)

بس طائفيتك زينة

متابع يالطائفي.

:)

فريج سعود يقول...

احسنت هذه القواعد العامة ضرورية لاي نقاش علمي هادف

Ahmed.K.A يقول...

ما شاءالله عليك .. شخص واعي ..

و جميلة هي أساسيات الحوار اللي قاع تطرحها بمواضيعك .. و بالأخص مثال نقاشات الإلحاد ..

حقاً يجب علينا أن نفهم قواعد الحوار مع الأطراف الأخرى ,, و ليس فقط الهجوم من نافذة التعصب الأعمى ..

سر و نحن من ورائك يا سفيد ..
متابع بشدة لما تنتجه يداك لهذه السلسلة المميزة (سفيد الطائفي :)

المقوع الشرقي يقول...

متابعه
دمت بخير

Salah يقول...

متابعين

Safeed يقول...

سيدة التنبيب ،،

الجملة الأخيرة التي تفضلتِ بها مهمة ، ليس المطلوب منّا أن ناذخ بيد الناس فردا فردا و نبدأ بتعليمهم كل شيء ، من يريد أن يتعلم و يعرف عليه أن يبذل جهدا في المطالعة و الإطلاع و نكتفي نحن باعطائه رؤوس الأقلام المهمة .
ما يحدث الآن هو أن البعض ياتي و يناقش في مثل هذه المسائل دون أن يكلف نفسه مشقة الإطلاع على ما في كتبه أولا قبل كتب غيره ليأتي و يتحدث عن علوم هي جزمًا أكبر من أن يستوعبها عقله بل و كيانه كله .
و هكذا يبدأ هذا الشخص بالدخول في دوامة الجدال باعتقاد مسبق التكوين أنه كل الناس تصدر أحكامهم و تُبنى عقائدهم كما يفعل هو بأن يأخذ مسلماته " الموروثة " وراثة دون تمحيص كقواعد ثابتة لا يجوز لأحد ان يحيد عنها لتبدأ دائرة الجدال البيزنطي .

شكرا للمرور .

.
.

أحمد الحيدر ،،

شكرا للمرور .

.
.

غير معرف ،،

ما أرنو إليه هو بيان أن من يريد أن يتناقش في اعتقاد ما و في حكم ما يجب أن يكون أولا على اطلاع على مباني هذا الاعتقاد وفق فكر معتنقيه ثم يبدأ ينقاشه بالسلب أو الإيجاب وفق ما ألزم الطرف الآخر نفسه به .
بمعنى أنني ألزم السني بما صح في البخاري و لا يجوز لي أن ألزمه بما صح في الكافي ! لأنه أساسا لا يعتبر الكافي كتابا مسلما به عنده ، من ثمة فإن أول المقالات يجب أن يكون اطلاعا على الافكار المختلفة مع الاخذ بالاعتبار الأدلة التي يرضى كل طرف بالتحاكم إليها و معرفة دقائقها حتى يتم تشييد الإلزام بصورة صحيحة بدلا من السخافات التي تحدث حاليا و تنطلق من المزاج و النظرة الأحادية .

الله سبحانه و تعالى ضرب أروع الأمثلة على هذا الأمر حين قال في كتابه الكريم ( وانا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين ).
فهو سبحانه وضع نفسه في نفس موضع خصومه رغم أنه الحق المطلق عز و جل و بدأ الحوار معهم على هذا الأساس ، ليبين لنا نهج الجدال و النقاش السليم كيف يكون .. فلا تعالي و لا استكبار إنما حوار و اعتبار .

شكرا للمرور .

Safeed يقول...

TruTh ،،

الله يعافيكم ،
ما أشرتم له هو لب الموضوع :)

شكرا للمرور .
.
.

Yang ،،

هذي طائفية من " الورد الطائفي " :)
لو بغيرها جان " سمينا البدن " :) و لكن لكل مقام مقال .

.
.

فريج سعود ،،

و أنتم من المحسنين :)

Safeed يقول...

Ahmed.K.A ،،

نتشرف بمتابعتكم :)

شكرا للمرور .

almaqwa3 alsharqy ،،
.
Salah ،،

.

شكرا للمرور :)

كبرياء وردة يقول...

سفيد

حاسة نفسي مضيعة طافتني السلسلة بأكملها:(

ثق اني رح اقراها بس شوي يبيلي مخ فاضي واكيد رح تنال اعجابي

يعطيك العافية وعسك عالقوة

تحياتي

Safeed يقول...

غير معرف ،،

شكرا على الرابط و المرور .
و لكن .. ما المطلوب ؟

.
.

كبرياء وردة ،،

حسيت إن سفيد الطائفي هي سلسلة هاري بوتر :)
صحيح إنها تندرج تحت نفس التصنيف إلا أن كل مقالة منفصلة بذاتها عمّا سبقها إلا في أحيان بسيطة تكون هناك إشارات لما مضى .
على العموم هي أحاديث بسيطة لمحاولة فهم أساليب الحوار بشكله الصحيح من وجهة نظري بعيدا عن إسفاف الجهلاء من المتردية و النطيحة ( الذين لا يكادون يفقهون حديثا ) ، و ما أكثرهم كانوا قبل شهرٍ من اليوم .

الله يعافيكم ، و شكرا للمرور .

علي حيدر النويسندي يقول...

فعلا كما قال أحمد الحيدر
" مبدع دائما "

Safeed يقول...

Q8_Q8 ،،

شكرا لمرورك عزيزي :)
و لكن لا تغرك هذه الكلمات ، لا زلت أقل مما تتصورون :)

علي حيدر النويسندي يقول...

إقتباس :
لذلك تكون نقاشات أهل العلم مثمرة لأنها قائمة على هذه المقاييس ، بينما ما يحدث للأسف بين العوام هو ( خوارات ) تقوم على مبادئ التعصب
..............
فعلا هالبوست جميل وارجع واقراءه ثلاث واربع وخمس
..............
مو سامع الي يقول : ما ناقشت عالما إلا غلبته... وما ناقشت جاهلا إلا غلبني
اعتقد تعرف منو

Safeed يقول...

Q8_Q8 ،،

كيف لا و هو عليه السلام القائل : قصم ظهري اثنان عالمٌ متهتك و جاهل متنسك .

الجاهل يناقش بمزاجه ، و العالم يناقش بأصول العلم التي من خلالها اكتسب المعرفة .

و لكن العلم ليس شرطا لأن يكون عاصما إن لم يتخلى عن مظاهره و عن الإستئناس بـ"الفكر القطيعي " الذي يريد أن يناقش من خلاله حتى لا يكتشف أن علمه شابه القصور في ناحية من النواحي .

شكرا لمرورك .