
هذا الموضوع بُـدء برسالة، ثم بجملة، ثم تقاطرت الأفكار فأصبح طويلاً ولازال عاجزًا عن لم شمل كل الأفكار .. إن هذا هو مجرد مثال بسيط على ما سيأتي!
.
السعادة مفهوم لازال طريح طاولة التشريح، لا أحد يدعي الوصول إلى المفهوم التام له، كما أنّ الحزن هو متلازم للسعادة و لم يصل أحد إلى المفهوم الشامل له. كل ما أبحر به الإنسان و أنتجه هو مباحث في "عوارض" السعادة والحزن، فنحن نقيس السعادة بآثارها، بالراحة، بالطمأنينة، بالدعة والسكينة، ولكن لا نقيس السعادة بذاتها، وفي نفس الوقت نحن نقيس الحزن بعوارضه لا بذاته، بألمه، وقلقه، و انقباض النفس، وضيق الحال.
.
هذه العوارض التي نقيسها ينطلق منها عامّة الباحثين إلى فهم السعادة والحزن، وماهيتهما، فهم يقولون بأن السعادة هي دفع الألم، كل ألم يحل بالإنسان، ألم الجوع، أو ألم الفقد، أو ألم العطش، أو ألم الحاجة كلها حين يتم دفعها يشعر الإنسان بالسعادة أو أحد مظاهرها. ومن جانب آخر فإن الاحساس المتزايد بهذه الحاجات و هذه الآلام يؤدي إلى الشعور بالحزن، والضيق، حين تلح حاجة ما وتبدو غير قادر على أن تحققها أو تشبعها في نفسك، يسيطر عليك الحزن، ويستبد بك الألم سواء كان الألم المادي، أو الألم المعنوي.
.
غير أنّ تساؤلاً يطرح نفسه، حتى ذلك الإنسان الغني القادر على اشباع كل احتياجاته، أو ما نتصوره من احتياج يشعر بالحزن، لماذا؟ أيضًا، حتى هذا الفقير الذي لا يملك قوت يومه يشعر بالسعادة، لماذا؟
.
لا أحد يمكنه أن يقدم إجابة وافية، لذلك يلجأ البعض إلى حمل القضية على أبسط محاملها، ليقتصر السعادة على أنها «لا تأتي من خارج الإنسان، بل هي تنبعث من داخله»[1] ويكتفي بهذه الإجابة، وفي الواقع هو لم يتعب نفسه في استكشاف لماذا تنبعث من الداخل؟ وكيف يمكن معرفتها؟ أو قياسها؟ أو حتى استيعاب سبب نفي السبب الخارجي في توليد السعادة، أو ماهي ماهيّتها، مما تكون؟ وكيف تكون؟ نحن "نشعر" بها، لكن لا نعرف مما هي، هذه كلها أسئلة يتصادم فيها الحكماء مع الفلاسفة من الروحانيين مع علماء النفس والاجتماع، وتبقى الحقيقة الوحيدة ثابتة، وهي أنّ الإنسان عاجز حتى عن بلوغ ما فيه!
.
اللاجواب الذي يسبح في غمراته الإنسان، يدفعه إلى الشعور بالعزلة في هذا العالم، فهو المخلوق الوحيد (العـالة) على البيئة، والمخلوق الوحيد (غير المنسجم) مع ما حوله، الحيوانات والحشرات وكل المخلوقات تقوم بأدوار دقيقة تكمل فيها حلقة الحياة، وتقوم بجزء يشكل بتكامله مع الآخرين الدورة الطبيعية الكاملة، إلا الإنسان الذي يشعر بأنه (مقذوف) في وسط هذا المحيط المنسجم كغدة 'سرطانية' تنهش فيه، وهو يملك خاصية "التحكم" بمواردهذه الدنيا دون غيره، رغم أنه على عكس الباقين يدمرها أكثر مما يخدمها ليبقيها، ويصبح عالة عليها أكثر من كونه جزءًا منها!
.
في تعقيبه، يذهب إريك فروم[2] إلى أنّ الجنّة، أو مملكة الله باصطلاحه، هي غاية الإنسان، سواء كما يطرحها الفكر الديني من حيث كونها كائنة في نهاية التاريخ، الآخرة، أو من ناحية الفكر ' المادي ' الحديث الذي يراها قابلة للحصول على أرض الواقع دون الحاجة لانتظار نهاية التاريخ / الزمن، وبرزت هذه الفكرة من خلال الحديث المتزايد عن الـ"يوتوبيا" أو المدينة الفاضلة، ويشير إلى أن ذلك بسبب أمل الإنسان بالوصول إلى «الكمال الإنساني على الصعيد الإجتماعي و الفردي».
.
هذا الأمل، يصفه شريعتي[3]، بأنه نتيجة لنقائص البشر، فكل فن من الفنون، هو تعبير عن النقص الذي يعيشه الإنسان في ذلك المجال، لهذا كانت (الجنة) موجودة في كل المذاهب و الأديان في السماء كانت، أم في الأرض. إن الإنسان لا يتحدث عمّا يملكه بقدر حديثه عمّا لا يملكه، و لا يبحث عن الاستزادة بما لديه، كما يبحث عن الاستزادة بما يفتقده، فهو ينجذب للشعر لأنه يختلف عن الحديث الاعتيادي في حياتنا اليومية، ويبحث عن الجمال في البشر و الأدب والفن وغيرها، لأنّ الجمال لا يعتبر حالة عامة في هذه الدنيا، هذا السعي الإنساني نحو (المفتـقد) عنده، في ظل نقصه، وعدم انسجامه، يجعله مقيّدًا ومكبوحًا في دائرة صغيرة تصيبه بتوتر شديد، وتعب طويل. الشيء الوحيد الذي يبقيه ساعيًا، في هذا المجال هو هذا الأمل في «الكمال» الذي ينتظره أو يتأمّله.
.
الإنسان، بصفته وذاته، كما يقول الشيخ الرئيس ابن سينا كائن «متنـاه»[4]، فهو يعيش برهة من الزمن بعد أن وُجد من العدم، لتنتهي مسيرته على الأرض بالموت، يرافقه طوال هذا المسير شعور بـ«اللا محدودية»، فهو لا يحب أن يصدق أو يؤمن بأن الموت يعني نهاية الطريق له، سواء كانت نهاية للوجود في هذه الدنيا كالمؤمنين، أو نهاية عدمية كما هي عند الملحدين وغيرهم.
.
«العقل المتناهي متجذر في اللا تناهي»[5]، لذلك يحمل الإنسان أعماله و آماله ويحاول ربطها بالذي لا ينتهي، حتى يصل هو بنفسه إلى التخلّص من عقدة ضيق الحياة، وقِصر الدنيا، إلى الخلود، وهذا الإحساس ليس عبثيًا، لأن العقل البشري كإمكانات يفوق بكثير الحدود الدنيوية لعمره، وما تمنّي الموت عند بعضهم إلا لأنه لم يعد يطيق ذلك التناقض بين ضيق «الدنيا» وسعة «العقل» حتى يصل لدرجة السأم، كمّا عبّر عنها حكيم الجاهلية زهير بن أبي سلمى.
.
الكمال، حاجة إنسانية، عجز المرء عن سدها يوّلد عنده ألم، وهذا الألم مشابه للألم «السـادي» من حيث اللذة، ومن حيث السعادة التي ينشرها في النفس، قارب «نيتشه» هذا المعنى كثيرًا، لأنه استوعب أن «مشاركة المعاناة» مع الآخرين تبعد النظر عن المعاناة الذاتية، فيتتج الفرح والنشوة أو التسلية، لكنّه حول ذلك إلى «عدمية»[6] بدلاً من تحويلها إلى طريقٍ للتكامل.
.
فلا عجب أن يصبح الحزن، ملاذًا للسعادة، منذ القدم و أن يكون هناك من يتلذذ بالحزن كتلذذه بالسعادة، بل إنّه يستمتع بهذا الحزن، لانه يعطيه الشعور «بالإنسانية»، إنسانيةَ الآمال و الأحلام التي يسعى إليها كل شخص، ويكون محملاً بها ليتصادم مع مرور الأيام بعقبات ومطبات تجعل هذه الأحلام مجرد خربشات على صفحات الذاكرة. الاستمتاع بالحزن هو استمتاع بالمواساة التي تقدمها حقيقة عجز الإنسان عن الوصول إلى الكمال المُطلق، واستمتاع بالتذكير المستمر بقصور هذا الإنسان، وأنّه ليس الوحيد الذي تعلقت أرجله بهذا المحل، انبهارنا بمشاعر الحزن التي تبثها الأفلام، وتلك التي نستوحيها من الصور الكئيبة، وانجذابنا إلى التراجيديا في الأدب هو مجرد شاهد آخر على استمتاعنا بالحزن، لأن هذا هو الشعور الوحيد الذي يخاطبنا كبشر وينفذ لداخلنا، ونحن نرى أنفسنا في هذا العالم الذي نشعر فيه بعدم الإنتماء.
.
_______________
[1] علي الوردي، مقالة: وهم السعادة.
وهذه النظرة، وإن كانت توحي بباطن عميق إلا أنّها عند أصحابها مجرد إجابة تبعد عنهم همّ التفكير بواقع السعادة وماهيّتها وسبب تولدها في النفس وفي محاولة لتبرير حالة القصور عن إدراك ذلك يكون إطلاق مثل هذا الحكم البديهي.
[2] راجع: حلم 1984 الجميل.
والواقع أنّ النظرة المادية الحديثة، ليست سوى نظرة وضعت في قبال النظرة الدينية عن الجنّة، فهي وضعت من باب المقابلة، لكونها فطرة لم يستطع أولئك غض البصر عنها!
[3] علي شريعتي، الإمام علي في محنه الثلاث.
[4] يقول ابن سينا: (لا يجوز أن يكون جسم من الأجسام ولا بُعد من الأبعاد لا خلاء ولا ملاء و لا عدد يترتب في الطبع موجودًا بالفعل بلا نهاية ...).
فهو – أي الإنسان – كائن كانت له بداية، وُجد بالفيض، وله نهاية في كل مرحلة إلاّ ما شاء الله، وليس قديمًا أزليًا.
[5] د.ت. سوزوكي، دراسات في بوذية زن.
[6] المفهوم (العدمي) للحياة، ليس سوى محاولة من اولئك العاجزين للقفز على 'دقائق' النفس الإنسانية في سعيها المطلق نحو الكمال والخلود (الأخلاقي).