توفي والدي و أنا في بداية مراهقتي ..
كان كل شيء متاح أمامي ...
فالمال متوفر ، و الرقابة منعدمة ،
كما يقولون المقتضى موجود و المانع مفقود .
كنت قبل ذلك بسنوات أراه ،
أستمع له أحيانا ،
تشدني كلماته ، ثم ابتعد عنه
لا اعرفه جيدا و لكن في تلك السنة قررت أن أتعرف عليه عن قرب .
هناك شيء جذبني له .. ربما فقداني لنصائح والدي !
ما قبلها كنت أتخبط ما بين شبهات ذاك الطرف ، و افتراءات هذا الطرف
كانت لي تجربة سيئة جدا في مجال ما يدعونه بـ " الحركية " .
تلك السنة جلست عنده و سلمته أغلى ما أملك : عقلي .
مراهق بسيط منخدع بالكثير من بهارج الدنيا ..
تكفلني .. ليس ماليا و لكن فكريا
كانوا يتصلون عليّ : اليوم سينما ؟
جوابي : عندي شي أهم !
أذكر جلوسي عنده أمام مكتبه الصغير في منطقة سلوى
على المكتب عدة أوراق و أقلام بسيطة و فوقه مكتبة عظيمة
أسأله و يجيب ، ازيد و يسهب ، أحاول أن أغيضه ببعض الشبهات
يهدمها لي و هو يضحك مبتسما و يشجعني على أن آتيه بالمزيد منها
سألته يومًا : هل هناك شيء تنصحني ألا أقرؤه ؟
قال : إقرا كل ما يقع تحت يداك ..
كلمة تماثل ما قاله لي والدي قبل وفاته بفترة بسيطة .
في شهر رمضان كنا في أوقات نحرمه من لقمة الإفطار من كثرة أسئلتنا ..
ما وجدت أوداجه تنتفخ ، و لا أعصابه تفقد .. كان يقابلنا بترحاب يجعلنا أحيانا نخجل من أنفسنا
حين نخرج من عنده يشيعنا للباب و يسألنا الدعاء .. أضحك و أقوله : دعائي يطق السقف و يرجع
يضحك فيقول :قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعاؤكم
و لا ينسى بأن يذكرنا بصلاة الليلة و صلاة الليل
نجلس بالساعات .. ننهل من فيض علمه .. و لطف أدبه
أعشق حديثه عن علم الاجتماع و هو يسبر اغوار النفس الإنسانية
و أحب نكاته الفلسفية و استشهاداته بها .. رغم أنه حاصل شهادة عليا في الحقوق
فقد كان وسطنا .. كأحدنا
أما قصصه فكنت أتعجب منها .. يروي الحكاية و إن سالته عنها بعد عدة سنوات
سيذكرها لك مجددا و يشير لك لمصدرها ..
يعشق التاريخ و يحب النظر له من زاوية مختلفة ..
علمني بذلك كيف أقرأ ماضيّ لأصحح به مستقبلي
يقولون من علمني حرفا صرتُ له عبدا .. فما بالك بمن علمني كل شيء ؟
...
كنت أدخل نفسي في نقاشات هي أكبر مني و حين أرى الردود
اهرع له ، ما هو الرد ؟
و يجلس بالساعات يفصل لي المسألة و يحللها و يجيبني عنها
عرفت منه كيف أحلل الكلمة لأخرج منها الإجابة
و كيف أن حياة الإنسان إما أن تكون بهيمية أو بشرية
كان حديثه لي دائما : دع الأنا العلوية تقودك للبشرية
أستاذي هذا ، الذي أتقازم أمام أفضاله عليّ هو ..

السيد محمد باقر الفالي
...
بيروت - لبنان
أذكر تلك الدمعات جيدا حين وجدت تلك اليتيمة
أخاها اليتيم المفقود منذ سنوات على مائدة ..
صنعتها في مؤسسة جعلتها
مأوى لهؤلاء ..
تجالسهم .. و تتحنن عليهم
كانوا عن جدك يقولون :
و أبو اليتامى و الجياع يعولهم
فكأنه و كأنهـم أرحامُ
و لكنهم اليوم عنك يقولون : مجرم !
كما قال جدك ..
أنزلني الدهر و أنزلني .. و أنزلني
هكذا هو الدهر مع العظام !
...
إليك يا أستاذي اعتذاري
فقومي لم يقدروك .. و لم يعرفوك
لو كنت تلبس طربوش الأفندية و قلت ما قاله علي الوردي لجعلوا لك نصبا
و لو استبدلت الجبة بالبدلة و قلت ما قاله سيد قطب لسموك الشهيد الحي
و لكنك تلبس عمامة .. فاتهموك بكل صلافة !
إنهم يحبون النظر بعين واحدة ..
قدسوا سارتر ،، و ألهوا داروين ،، و جعلوا القمني قديسا
و صنعوا منك تمثالا لشرورهم
إليك يا سيدي اعتذاري
و أعلم أنك لا تحتاجه ، فكلماتك صارمة
وقفت في كربلاء و أظهرت معدن البعث ما هو فكان نصيبك منهم الإعدام
اعتذاري يا سيدي لأنهم جعلوك كبش فداء لمطامعهم
اعتذاري لأنهم صوروك بغير صورتك ..
اعتذاري إليك يا سيدي لأنهم عرفوا ما صنعت ..
و عرفوا جيدا ما صنعوا هم ..فحق منهم البغض لك !
اعتذاري لك يا سيدي لأن قومي استضعفوك .. لأن قومي
سلبوا حقوقك .. لان قومي برروا التعدي عليك بحجة أن جوازك
لونه أحمر و عليه شعار ( الله ) !
اعتذاري يا سيدي إليك لأنهم مارسوا عهرهم السياسي
على عباءتك !