
معنى القاعدة أن العقل لا يقبل أبدًا أن يكون هناك نقيضان في نفس الوقت ، كأن نقول في نفس البقعة هناك ضوء و ظلام،أو أن الغرفة باردة و حارة، بل لابد من ارتفاع أحدهما حتى يمكن الوصف، هذا الحكم يسمى بالحكم العقلي ، الحكم الذي ينبع من العقل ذاته و يُعتبر بديهيًا لا يتناقض أو ينكره أحد.
في نفس الوقت الحكم العقلي لا يعتمد على الظن و الحدس بل على البديهة إن صح التعبير ، و البديهة مشتركة بين جميع البشر لا يختلفون فيها، بينما لو اعتمد على الحدس وحده لما صار هناك مجال للإتفاق بين الناس.
حين نقول بأن 1 + 1 =2 فهذا حكم عقلي ، و أن نقول بأن الشمس تشرق من المشرق فهذا حكم عقلي آخر، لن يختلف الشيوعي في بكين مع المسلم في سوريا مع المسيحي في النمسا مع الملحد في كولومبيا فيه، جميعهم رغم كل إختلافاتهم يتفقون بهذه النتائج و المقدمات لأنها عقلية بحتة و يستحيل أن يتحول العقل ليعطي نتيجة يخالف المعروف منها.
في نفس الوقت هناك أحكام عقلائية هي عوارض على الجوهر إن جاز القول بذلك، هذه الأحكام تستمد مكانتها اعتمادًا على الحدس و الحس و العرف؛ و العرف يعني العادة التي جرى عليها العقلاء ( المفكرون / المشرعون / الراشدون ) فهي منسوبة للعقل.
لمزيد من التوضيح لنأخذ قوانين المرور كمثال ، قوانين المرور أوجدها العقلاء حتى يكون هناك نظام و انتظام في الطرق و بالتالي يحفظ كل شخص حقه في الطريق ، هذه القوانين التي أوجدت من أجل الحفاظ على حقوق مستعملي الطرق هي أحكام عقلائية.
هي نفسها التي من خلالها يضع المشرعون القوانين و النظم في مختلف نواحي الحياة ، و حتى في مجال المجتمعات من خلال العادات و الآداب التي تحكم أفراده و تحكمنا نحن كمنتمين لهذه المجتمعات و ما فيها من عقود اجتماعية نسير بمقتضاها هي كلها نواتج من العقل ، أي أحكام عقلائية أوجدها العقلاء و تعارفوا عليها من أجل الحفاظ على نظام و سلامة المجتمع.
الأحكام العقلائية تخضع بالعادة للخلفية الفكرية التي تتملك العقلاء و تسيطر على أعرافهم ، هي تنتج من القاعدة التي توفر المنطلقات التي تحدد 'عملية التفكير' عند الإنسان، من القاعدة التي تزوده بالقيم أو بالاحرى المسطرة التي يسير بمقتضاها أثناء أي معالجة عقلية لأي موضوع و يقيس عليها هذه المعالجة أيضًا.
ما قبل أرسطو مثلاً كانت عملية التفكير تتولد من العقل الأسطوري ،من حيث ربط أسباب الحوادث بقوى غريبة من شاكلة السحر و الأرواح و الأشباح ،فكل حادثة كان يحكم عليها وفق الخلفية الثقافية / الفكرية بانها من تأثير روح أو شبح أو سحر أسود و غيرها ، بينما منذ القواعد التي أرساها أرسطو بالمنطق ثم بزوغ عصر الفلسفة الإغريقية نزل العقل لمرحلة التجريب العلمي إلى يومنا الحاضر الذي لم يعد يفسر المرض على أنه حادث بسبب غول أو روح بل لسبب فسيلوجي بحت، العقل القديم لم يكن ليصدق أن مرضًا يمكن ان يسببه كائن حي لا يُرى بالعين كالبكتيريا مثلاً بل وفق قواعده لابد و أن يكون السبب هو (تأثير) مباشر من قِبل تلك القوى المذكورة سابقًا و يرى في هذا الأمر غاية العقلانية، بينما نراه نحن اليوم لا يمت للعقل بصلة، رغم أن هذا العقل الذي نمتلكه لا يختلف بالمهمة و الشكل عن عقل الإنسان البدائي.
من هنا يتبين الفارق بين الحكم العقلي و الحكم العقلائي ، الحكم العقلي هو حكم بديهي ثابت و متأصل في كل إنسان و يعني الحكم الذي يستحيل عليه النقض، بينما الحكم العقلائي هو حكم يرجع للإستحسان النابع من تفكير العقل وفق أدواته التي امتلكها الفرد ، و هذه الادوات متطورة مع الزمن.
الحكم العقلي هو ثابت بينما الحكم العقلائي متغير و نسبي ، الآراء و الأفكار و القوانين و غيرها من نتاجات عقول البشر هي متكونة نتيجة لطريقة التفكير التي تغذاها هذا الإنسان من مجتمعه و محيطه و بيئته، و يُعتبر ديكارت من أوائل الفلاسفة الذين طرقوا هذا الباب في الغرب مع التأكيد على ريادة فلاسفة الشرق الإشراقيين الذين قالوا بوجوب التخلص من الكدورات (المعوقات) الروحانية و العقلية حتى يصل العقل للحقيقة المطلقة.
رينيه ديكارت في منهجه «مسح الطاولة» يؤكد على ضرورة التخلص من التراث الفكري و المنهجية العقلية المكتسبة التي تولد التضارب و التناقض في الأفكار الإنسانية حيث أنه وجد عقله في كتاباته يتقافز بين شتى الأفكار و المنهجيات المتضاربة التي قرأها و اطلع عليها أو تربى عليها و اكتسبها أثناء حياته ،لذلك توصل إلى أن الحل الوحيد هو مسح هذا كله و 'تطهير' عقله من كل ذلك و إعادة بناء أفكاره و مبادئه منهجيًا من خلال الرجوع إلى (الفطرة العقلية)، أي العقل و مبادئه التي يستحيل عليها التناقض.
نحن لا زلنا لا نفرق بين الأحكام العقلية الثابتة و الأحكام العقلائية المتغيرة / النسبية، فنجعل من الثابت متغيرًا و من المتغير ثابتًا ثم نشخص نحو محاكمة الآخرين وفق هذه المجعولات المقلوبة، إن أشد ما نحتاجه هو أن نتعلم من 'ديكارت' كيف ننقي عقولنا ، و كيف نفرق ما بين أحكام العقل و أحكام العرف (العقلائية) التي تنتج من الموروث الفكري ،و كيف نختار المنهجية التي نزود بها عقولنا ، المنهجية التي تؤيد الفطرة السليمة الموجودة فيه بدلاً من تسميمه بالمنهجيات المتناقضة و الطرق السيئة التي لا تقود إلا إلى (السقوط في غيابت جب الهوى) كما عبّر عن ذلك الملا صدر المتألهين.
شاهد ذلك ما روي في الكافي الشريف ، بحديث طويل عن الإمام الصادق عليه السلام ، منه:
« .. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟
قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله قوامه وزينته وهدايته، علم أن الله هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة، وأن له معصية، فلم يجد عقله يدله على ذلك ،وعلم أنه لا يوصل إليه إلا بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله، إن لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والادب الذي لا قوام له إلا به.»
و معنى الرواية أن العقل يدل المرء على التوحيد ، و لكنه لا يدله على الفرق ما بين العصيان و الطاعة ، ولا يدله على المنهج أو الطريق الذي يؤدي به العبادة نحو هذا الخالق الواحد،لذلك يجب عليه أن يبحث عن المنهج الذي يدله على الفرق بين ما يحبه هذا الخالق الواحد و بين ما يبغضه ليعطيه القيمة التي من خلالها يفرق الطاعة عن المعصية،و يضعه على الدرب الصحيح للعبادة و لا يكون ذلك إلا بطلب العلم.
فانتفاع الإنسان لا يكون بالعقل وحده و لا يمكن له أن ( يستغني بعقله ) إذا لم يضع له منهجية يستعمل من خلالها هذا العقل، من هنا يأتي التأكيد على ضرورة بحث الإنسان عن العلم و الأدب حتى يصل للمنهجية الأسلم التي يكون فيها نجاته.